الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَٱدَّارَأْتُمْ فِيهَا وَٱللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } * { فَقُلْنَا ٱضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي ٱللَّهُ ٱلْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }

هذا هو أوّل القصّة المحتوية على المخالفة - على ما أشرنا إليه - وهي القتل، ثمّ التنازع في القاتل، ثمّ تشريع الحكم لكشف الحقيقة بذبح البقرة وما كان من إلحاحهم في السؤال على ما سبق. فقوله تعالى: { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَٱدَّارَأْتُمْ فِيهَا } أسند فيه القتل إلى الأمّة، وإن كان القاتل واحداً، بإعتبار ما تقدّم من كونها في مجموعها وتكافلها كالشخص الواحد. والتدارؤ: تفاعل من الدرء، وهو الدفع، فمعناه: التدافع، وهو يدلّ على أنّه كان خصام وإتّهام. وكان كلٌّ يدرأ عن نفسه ويدّعي البراءة ويتّهم غيره، وكان للقاتلين والعارفين بهم حظوظ وأهواء كتموا فيها الحقيقة؛ ولذلك قال تعالى بعد التذكير بالجريمة: { وَٱللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } من الإيقاع بقوم برآء تتّهمونهم بالقتل لإخفاء القاتل؛ لأنّه لا يخفى عليه مكركم.

وأمّا قوله: { فَقُلْنَا ٱضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي ٱللَّهُ ٱلْمَوْتَىٰ } فهو بيان لإخراج ما يكتمون. ويروون في هذا الضرب روايات كثيرة: قيل: إنّ المراد اضربوا المقتول بلسانها، وقيل: بفخذها وقيل بذنبها وقالوا: إنّهم ضربوه فعادت إليه الحياة، وقال: قتلني أخي أو ابن أخي فلان... إلخ ما قالوه. والآية ليست نصّاً في مجمله، فكيف بتفصيله. والظاهر ممّا قدّمنا: إنّ ذلك العمل كان وسيلةً عندهم للفصل في الدماء عند التنازع في القاتل، إذا وجد القتيل قرب بلد ولم يعرف قاتله، ليعرف الجاني من غيره. فمَنْ غسل يده وفعل ما رسم لذلك في الشريعة بريء من الدم، ومَنْ لم يفعل ثبتت عليه الجناية. ومعنى إحياء الموتى - على هذا - حفظ الدماء التي كانت عرضة لأن تسفك بسبب الخلاف في قتل تلك النفس، أي يحييها بمثل هذه الأحكام. وهذا الإحياء على حدّ قوله تعالى:وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً } [المائدة: 32] وقوله:وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَٰوةٌ } [البقرة: 179] فالإحياء هنا معناه الإستبقاء، كما هو المعنى في الآيتين. ثمّ قال: { وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ } بما يفصل بها في الخصومات، ويزيل من أسباب الفتن والعداوات، فهو كقوله تعالى:إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ ٱللَّهُ } [النساء: 105]، وأكثر ما يُستعمل مثل هذا التعبير في آيات الله في خلقه، الدالّة على صدق رُسله. وليس عندي شيء عن شيخنا في تفسير هذه الجملة، ولكنّه قال في تعليلها ما يرجّح القول الأوّل وهو: { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } أي تفقهون أسرار الأحكام وفائدة الخضوع للشريعة، فلا تتوهّمون أنّ ما وقع مختصّ بهذه الواقعة في هذا الوقت، بل يجب أن تتلقّوا أمر الله في كلّ وقت بالقبول من غير تعنّت.