الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُوۤاْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِٱللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ } * { قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذٰلِكَ فَٱفْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ } * { قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَآءُ فَاقِـعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ ٱلنَّاظِرِينَ } * { قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ ٱلبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَآءَ ٱللَّهُ لَمُهْتَدُونَ } * { قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ ٱلأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي ٱلْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ ٱلآنَ جِئْتَ بِٱلْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ }

هذه القصة ممّا أراد الله تعالى أن يقصّه علينا من أخبار بني إسرائيل في قسوتهم وفسوقهم للإعتبار بها. ومن وجوه الإعتبار: إنّ التنطّع في الدين والإحفاء في السؤال، ممّا يقتضي التشديد في الأحكام، فمنْ شَدّد شُدّد عليه؛ ولذلك نهى الله تعالى هذه الأمّة عن كثرة السؤال بقوله:يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ ٱلْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا ٱللَّهُ عَنْهَا وَٱللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ } [المائدة: 101-102]. وفي الحديث الصحيح " ويُكره لكْنَ قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال " وقد امتثل سلفنا الأمر، فلم يشدّدوا على أنفسهم، فكان الدين عندهم فطريّاً ساذجاً وحنيفيّاً سمحاً، ولكنّ منْ خَلفنا من عمد إلى ما عفا الله عنه، فاستخرج له أحكاماً استنبطها بإجتهاده، وأكثروا منها حتّى صار الدين حملا ثقيلا على الأمّة فسئمته وملّت، وألقته وتخلّت.

قال الأستاذ الإمام: جاءت هذه الآيات على أسلوب القرآن الخاصّ الذي لم يسبق إليه ولم يلحق فيه، فهو في هذه القصص لم يلتزم ترتيب المؤرّخين ولا طريقة الكتّاب في تنسيق الكلام وترتيبه على حسب الوقائع، حتّى في القصّة الواحدة، وإنّما ينسّق الكلام فيه بأسلوب يأخذ بمجامع القلوب، ويحرّك الفكر إلى النظر تحريكاً، ويهزّ النفس للإعتبار هزّاً.

وقد راعى في قصص بني إسرائيل أنواع المنن التي منحهم الله تعالى إيّاها، وضروب الكفران والفسوق التي قابلوها بها، وما كان في أثر كلّ ذلك من تأديبهم بالعقوبات، وابتلائهم بالحسنات والسيّئات، وكيف كانوا يحدثون في أثر كلّ عقوبة توبة، ويحدث لهم في أثر كلّ توبة نعمة، ثمّ يعودون إلى بطرهم، وينقلبون إلى كفرهم.

كان في الآيات السابقة، يذكر النعمة، فالمخالفة، فالعقوبة، فالتوبة، فالرحمة كالتفضيل على العالمين، وأخذ الميثاق، والإنجاء من آل فرعون وما كان في أثر ذلك على ما أشرنا الآن وأجملنا، وأوضحنا من قبل وفصّلنا. وفي هذه القصّة اختلف النسق، فذكر المخالفة بعد في قوله:وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَٱدَّارَأْتُمْ فِيهَا } [البقرة: 72] ثمّ المنّة في الخلاص منها في قولهفَقُلْنَا ٱضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا } [البقرة: 73] إلخ، وقدّم على ذلك ذكر وسيلة الخلاص، وهي ذبح البقرة بما يعجب السامع ويشوّقه إلى معرفة ما وراءها [حيث لم يسبق في الكلام عهد لسبب أمر موسى لقومه أن يذبحوا بقرة. فالمفاجأة بحكاية ما كان من ذلك الأمر، والجدال الذي وقع فيه، يثير الشوق في الأنفس إلى معرفة السبب، فتتوجّه الفكرة بأجمعها إلى تلقّيه]: إذ الحكمة - في أمر الله أمّةً من الأمم بذبح بقرة - خفيَّة وجديرة بأن يعجب منها السامع ويحرص على طلبها. لا سيّما إذا لم يعتدْ فهم الأساليب الأخّاذة بالنفوس الهازّة للقلوب.

السابقالتالي
2 3 4