الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ قُلْتُمْ يَٰمُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ ٱلأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ ٱلَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِٱلَّذِي هُوَ خَيْرٌ ٱهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلْمَسْكَنَةُ وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَيَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ ذٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ }

هذا ضرب آخر مما ذكّر الله تعالى به بني إسرائيل في سياق دعوتهم إلى الإسلام. قال صاحب الكشاف: كانوا قوماً فلاّحة فنزعوا إلى عكرهم، فأجمعوا ما كانوا فيه من النعمة وطلبت أنفسهم الشقاء، اهـ. وقال الأستاذ الإمام في تفسيره ونقده وردّه ما نصّه: فلاّحة بتشديد اللام جمع فلاّح بمعنى الزرّاع، وعكرهم بكسر العين أصلهم، وأجم الطعام من باب ضرب وعلم كرهه من المداومة عليه. وهو بيان لما بعثهم على أن يسألوا موسى أن يدعو ربه ليخرج لهم تلك الأشياء التي طلبوها، والسبب في جهرهم بذلك وثورتهم عليه، كأنه يقول: إن الحامل لهم على ذلك هو تمكّن العادة من نفوسهم، فلما خرجوا منها وجاءهم ما لم يكونوا يألفون، نزعوا إلى ما كانوا قد عوّدوه من قبل. ولو كان الأمر كما قال، لكان في ذلك التماس عذر لهم، ولما عدّ الله هذا القول في خطاياهم، بل إن السآمة من تناول طعام واحد، قد يكون من لوازم الطباع البشرية، إلاّ ما شذّ منها لعادة أو ضرورة، ولا يعدّ ما هو من منازع الطباع جرماً إذا لم يسقط ذلك في محظور. وسياق الآيات قبلها وما يلحق بعد ذلك من قوله تعالى:وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ } [البقرة: 63]، إلخ. كل ذلك يدل على أن ما عدّد من أفاعيلهم، مع تضافر الآيات بين أيديهم وتوارد نعم الله عليهم: كلّه من خطاياهم، ومن ذلك قوله تعالى: { وَإِذْ قُلْتُمْ يَٰمُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ ٱلأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا } ويؤكد ذلك إيراد تلك العقوبة الشديدة من ضرب الذلة والمسكنة، واستحقاق غضب الله تعالى عقب مقالهم هذا.

والذي يقع عليه الفهم من الآية: إنّ النزق قد استولى على طباعهم وملك البطر أهواءهم، حتى كانوا يستخفّون بذلك الأمر العظيم، الذي هيأهم الله له من التمكن في الأرض الموعودة والخروج من الخسف الذي كانوا فيه. ومع كثرة ما شاهدوا من آيات الله القائمة على صدق وعده لهم، لم تستيقنه أنفسهم، بل كانوا على ريب منه، وكانوا يظنون أن موسى عليه السلام خدعهم بإخراجهم من مصر وجاء بهم في البرّية ليهلكهم؛ فلذلك دأبوا على إعناته والإكثار من الطلب فيما يستطاع وما لا يستطاع، حتّى ييأس منهم فيرتدّ بهم إلى مصر حيث ألفوا الذلّة، ولهم مطمع في العيش وأمل في الخلاص من الهلكة، فما ذكره الله عنهم في هذه الآية على حد قولهم:لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً } [البقرة: 55]. ويرشد إلى ما فيه من الإعنات قولهم: لن نصبر على طعام واحد. فقد عبّر عن مسألتهم بما فيه حرف النفي الذي يأتي لسلب الفعل في مستقبل الزمان مع تأكيده، فكأنهم قالوا: اعلم أنه لم يبق لك أمل في بقائنا معك على هذه الحالة من التزام طعام واحد، فإن كانت لك منزلة عند الله كما تزعم، فادعُه يخرج لنا ما يمكن معه أن نبقى معك، إلى أن يتم الوعد الذي وعدك ووعدتنا، وهم يعلمون أنهم كانوا في برّية غير منبتة، وربما لم يكن قولهم هذا عن سآمة ولا أجم من وحدة الطعام، ولكنه نزق وبطر - كما بيّنا - وطلب للخلاص مما يخشون على أنفسهم، ويؤيد ذلك ما هو معروف في أخبارهم.

السابقالتالي
2 3 4