الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذِ ٱسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْحَجَرَ فَٱنفَجَرَتْ مِنْهُ ٱثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ ٱللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ }

هذا بيان لحال آخر من أحوال بني إسرائيل في هجرتهم وعناية الله تعالى بهم فيها. أصابهم الظمأ فعادوا على موسى باللائمة أن أخرجهم من أرض مصر الخصبة المتدفقة بالأمواه، وكانوا عند كل ضيق يمنّون عليه أن خرجوا معه من مصر ويجهرون بالندم. فاستغاث موسى بربّه واستسقاه لقومه، كما قصّه الله تعالى علينا بقوله: { وَإِذِ ٱسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ } أي طلب السقيا لهم من الله تعالى: { فَقُلْنَا ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْحَجَرَ } قال الأستاذ الإمام. أمره أن يضرب بعصاه حجراً من حجارة تلك الصحراء بتلك العصا التي ضرب بها البحر فضربه { فَٱنفَجَرَتْ مِنْهُ ٱثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً } بعدد أسباطهم وذلك قوله عزّ وجل: { قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ }.

قال: وكون هذا الحجر هو الذي روي أنه تدحرج بثوب موسى يوم كان يغتسل، كما قال المفسر (الجلال) لا دليل عليه، وقصة الثوب ليست في القرآن، فيحمل تعريف الحجر على أنه المعهود في القصة، وإنما يفهم التعريف أن الحجر الذي ضرب فتفجرت منه المياه، حجر مخصوص له صفات تميّزه عندهم، ككونه صلباً أو عظيماً تتسع مساحته لتلك العيون، ويصلح أن تكون منه موارد لتلك الأمم، [أو كونه يقع تحت أعينهم منفرداً عن غيره ليس في محلّتهم سواه، وقد يكون التعريف للدلالة على الجنس؛ ليفيدنا بُعد المرغوب عن التناول، وعظمة القدرة الإلهية وأثرها الجليل في تقريبه وتحصيله] وعبّر عنه في سفر الخروج بالصخرة ولو علم الله تعالى أن لنا فائدة في أكثر مما دلّ عليه هذا الخطاب من التعيين لما تركه.

ثم أراد أن يصوّر حال بني إسرائيل في هذه النعمة وإغتباطهم بما منحهم من العيش الرغد في مهاجرهم فقال: { كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ ٱللَّهِ } فعبّر عن الحال الماضية بالأمر؛ ليستحضر سامع الخطاب أولئك القوم في ذهنه، ويتصور إغتباطهم بما هم فيه، حتّى كأنهم حاضرون الآن والخطاب يوجه إليهم. وهذا ضرب من ضروب إيجاز القرآن التي لا تجارى ولا تمارى ثم قال: { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ } أي لا تنشروا فسادكم في الأرض وتكونوا في الشرور قدوة سيئة للناس. يقال: عثا، إذا نشر الشرّ والفساد وأثار الخبث، فهو أخصّ من مطلق الإفساد؛ ولذلك مع كون " مفسدين " حالاً من ضمير " تعثوا ".

قال الأستاذ الإمام: إن كثيراً من أعداء القرآن يأخذون عليه عدم الترتيب في القصص، ويقولون هنا إن الإستسقاء وضرب الحجر كان قبل التيه وقبل الأمر بدخول تلك القرية، فذكر هنا بعد تلك الوقائع. والجواب عن هذه الشبهة يفهم مما قلناه مراراً في قصص الأنبياء والأمم الواردة في القرآن، وهو أنه لم يقصد بها التاريخ وسرد الوقائع مرتبة بحسب أزمنة وقوعها، وإنما المراد بها الإعتبار والعظة ببيان النعم متصلة بأسبابها لتطلب بها، وبيان النقم بعللها لتتقى من جهتها.

السابقالتالي
2