الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَٰقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِٱتِّخَاذِكُمُ ٱلْعِجْلَ فَتُوبُوۤاْ إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَٱقْتُلُوۤاْ أَنفُسَكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ } * { وَإِذْ قُلْتُمْ يَٰمُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ ٱلصَّٰعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } * { ثُمَّ بَعَثْنَٰكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } * { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْمَنَّ وَٱلسَّلْوَىٰ كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقْنَٱكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }

في هذه الآيات ضرب من ضروب التذكير غير ما سبقه، ومن البلاغة والحكمة أن يجيء تالياً له ومتأخراً عنه. مهّد أولا للتذكير تمهيداً يسترعي السمع، ويوجّه الفكر، ويستميل القلب، وهو: الإبتداء بذكر النعمة مجملة والتفضيل على العالمين - ولا يرتاح الإنسان لحديث كحديث مناقب قومه ومفاخرهم - ثم طفق يفصّل النعمة ويشرحها، فبدأ بذكر فرد من أفرادها لا يقترن به ذكر سيئة من سيئاتهم، وهو: تنجيتهم من ظلم آل فرعون، ولكن ذكر معه أكبر ضروب ذلك الظلم، وهو قتل الأبناء - يخفض من عتوّ تلك النفوس المعجبة المتكبرة التي تعتقد أن الله لا يسوّد عليهم شعباً آخر، وهو مع هذا لا ينفر بها عن الإصغاء والتدبر؛ لأنه لم يفاجئها بشيء فيه نسبة التقصير وعمل السوء إليها. ثم ثنّى بذكر نعمة خاصة خالصة تسكن النفس إلى ذكرها، إذ لا يشوب الفخر بها تنغيص من تذكّر غضاضة تتصل بواقعتها، وهي فرق البحر بهم، وإنجاؤهم، وإغراق عدوهم.

لا جرم أن نفوس الإسرائيليين كانت تهتزّ وتأخذها الأريحية عندما تلا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية، لما فيها من الشهادة بعناية الله تعالى بهم، ولا سيّما إذا قارنوا بين هذا التذكير وبين تذكير مشركي العرب بتلك القوارع الشديدة، لم يتركها بعد هذه الهزة تجمح في عجبها وفخرها، وتتمادى في إبائها وزهوها، بل عقّب عليها، فذكر بعد هذه النعمة سيئة لهم، هي كبرى السيئات التي ظلموا بها أنفسهم، وكفروا نعمة ربهم، وهي: اتخاذ العجل إلهاً. وقدّم على ذكرها خبر مواعدة موسى - وهي من النعم، وختمها بذكر العفو، ثم قفّى عليها بذكر نعمة إيتائهم الكتاب والفرقان. وهذا ما يجعل أنفس السامعين الواعين، قلقة يتنازعها شعور إعتراف المذكّر الواعظ لها بالشرف، وشعور رميه إياها بالظلم والسرف.

بعد هذا كلّه استعدّت تلك النفوس لأن تسمع آيات مبدوءة بذكر سيئاتها من غير تمهيد ولا توطئة، فانتقل الكلام إلى هذا الضرب من التذكير مبدوءً بقوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ } أي واذكر أيّها الرسول - فيما تلقيه على بني إسرائيل وغيرهم - إذ قال موسى لقومه الذين اتخذوا من حليّهم عجلا عبدوه إذ كان يناجي ربّه في الميقاتين الزماني والمكاني: { يَٰقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِٱتِّخَاذِكُمُ ٱلْعِجْلَ } إلهاً عبدتموه. والقصة مفصلة في سورتي الأعراف وطه المكيّتين؛ لأن قصة موسى فيهما مقصودة بالذات، وأما ما هنا فهو تذكير لبني إسرائيل بما تقدّم وجهه في سياق دعوتهم إلى الإسلام { فَتُوبُوۤاْ إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَٱقْتُلُوۤاْ أَنفُسَكُمْ } أي فتوبوا إلى خالقكم الذي لا يجوز أن تعبدوا معه إلهاً آخر هو أدنى منكم، وهو من خلقكم، أي تقديركم وصنعكم، وذلك بأن يقتل بعضكم بعضاً، فإن قتل المرء لأخيه كقتله لنفسه.

السابقالتالي
2 3 4