الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ }

هاهنا إشارتان، والمشار إليه عند الجمهور واحد: وهو ما في الآيتين السابقتين من المؤمنين من غير أهل الكتاب والمؤمنين منهم، وكرّر الإشارة للإعلام بأنّه لا بدّ من تحقّق الوصفين لتحقّق الحكم بأنّهم على هدىً وأنّهم هم المفلحون. كذا قال بعضهم - وهو تكلّف ظاهر، وكذا قولهم: إنّ تنكير هدىً هنا للتعظيم. وشيخنا قد جعل الإشارتين لنوعي المؤمنين المذكورين في الآية السابقة بأسلوب اللفّ والنشر المرتّب.

قال: إنّ الإشارة الأولى { أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ } [البقرة: 5] في هذه الآية للفرقة الأولى: وهم الذين ينتظرون الحقّ لأنّهم على شيء منه - كما يدلّ عليه تنكير " هدىً " الدالّ على النوع - وينتظرون بياناً من الله تعالى ليأخذوا به، ولذلك تقبّلوه عندما جاءهم. فقد أشعر الله قلوبهم الهداية، بما آمنوا به من الغيب، وأقاموا الصلاة بالمعنى الذي سبق، وأنفقوا ممّا رزقهم الله. وأمّا الفرقة الثانية وهم المؤمنون بما جاء به محمّد صلى الله عليه وسلم فعلى هدىً تشرك فيه تلك الفرقة الأولى؛ لكن على وجه أكمل؛ لأنّها مؤمنة بالقرآن وعاملة به. وقوله: " على هدىً " تعبير يفيد التمكّن من الشيء كتمكّن المستقرّ عليه، كقولهم: " ركب هواه " ولقد كان أفراد تلك الفرقة (أي الأولى) على بصيرة وتمكّن من نوع الهدى الذي كانوا عليه، فإن كان هذا غير كاف لإسعادهم وفلاحهم، فهو كاف لإعدادهم وتأهيلهم لهما بالإيمان التفصيليّ المنزّل، ولذلك قبلوه عندما بلغتهم دعوته.

وإلى الفرقة الثانية وقعت الإشارة الثانية { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } كما هو ظاهر، وهم المفلحون بالفعل لاتّصافهم بالإيمان الكامل بالقرآن، وبما تقدّمه من الكتب السماويّة، واليقين بالآخرة - لا مطلق الإيمان بالغيب إجمالا. ويرشد إلى التغاير بين مرجع الإشارتين ترك ضمير الفصل " هم " في الأولى وذكره في الثانية، ولو كان المشار إليه واحداً لذكر الفصل في الأولى؛ لأنّ المؤمنين بالقرآن هم الذين على الهدى الصحيح التامّ، فهو خاصّ بهم دون سواهم، لكنّه اكتفى عن التنصيص على تمكّنهم من الهدى بحصر الفلاح فيهم. ومادّة الفلح تفيد في الأصل معنى الشقّ والقطع، ومثلها مادّة الفلج بالجيم، والفلخ بالخاء، والفلذ والفلع والفلغ والفلق، والفلّ والفلم، ويطلق الفلاح والفلج على الفوز بالمطلوب، ولكن لا يقال: أفلح الرجل إذا فاز بمرغوبه عفواً من غير تعب ولا معاناة، بل لا بدَّ في تحقيق المعنى اللغويّ لهذه المادّة من السعي إلى الرغيبة، والاجتهاد لإدراكها. فهؤلاء ما كانوا مفلحين إلاّ بالإيمان بما أنزل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وما أنزل من قبله، وباتّباع هذا الإيمان بامتثال الأوامر واجتناب النواهي التي نيط بها الوعد والوعيد فيما أنزل إليه صلى الله عليه وسلم، مع اليقين بالجزاء على جميع ذلك في الآخرة.

السابقالتالي
2