الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ يَٰبَنِي إِسْرَائِيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِي ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى ٱلْعَٰلَمِينَ } * { وَٱتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَٰعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ }

تقدّم تذكير بني إسرائيل بالنعمة في آية قبل هذه الآية مقروناً بالأمر بالوفاء بعهد الله، وبالوعد بالجزاء عليه، والأمر بالخشية منه والرهبة له وحده. (وهي آية 39) وتلاها آياتٌ أمرهم فيها بالإيمان بالقرآن، ونهاهم عن لبس الحقّ بالباطل وكتمانه، ثمّ أمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ثمّ وبّخهم على نسيان أنفسهم من البرّ، مع أمرهم للناس به وتلاوتهم الكتاب الداعي إليه، ودلّهم على الطريق التي لو سلكوها، عوفوا من هذا النسيان، تلك الطريق، هي: الإستعانة بالصبر والصلاة التي فقدوها بفقد روحها وهو الإخلاص والخشوع، وبعد هذا عاد إلى التذكير بالنعمة بنوع من التفصيل، فإنّ النعمة في الآية الأولى مجملة، والإجمال ينبّه الفكر إلى الذكر في الجملة، فإذا تلاه التفصيل والبيان، كان على استعداد تام لكمال الفهم [فيكون التذكّر أتمّ والتأثّر أقوى، والشكر على النعمة أرجى].

ثمّ طلب منهم أن يذكروا نعمته عليهم، وتفضيله إيّاهم على الناس، إحياءً لشعور الكرامة في نفوسهم، ووصله بالأمر باتّقاء يوم الدين والجزاء. وهذا أسلوب حكيم في الوعظ، فينبغي لكلّ واعظ أن يبدأ وعظه بإحياء إحساس الشرف وشعور الكرامة في نفوس الموعوظين؛ لتستعدّ بذلك لقبول الموعظة [وتجد من ذلك الإحساس معونة من العزيمة الصادقة التي هي من خصائص النفوس الكريمة على عوامل الهوى والشهوة، فإنّ النفس إذا استشعرت كرامتها وعلوّها ونظرت إلى ما في الرذائل من الخسّة، أبى لها ذلك الشعور - شعور العلوّ والرفعة - أن تنحطّ إلى تعاطي تلك الخسائس، وكان ذلك من أقوى الوسائل لمساعدة الواعظ على بلوغ قصده من نفس من يوجّه إليه وعظه. ثمّ إنّ في الوعظ مسّاً يؤلم نفس الموعوظ وجرحاً يكاد يحملها على النفرة من تلقينه والإستنكاف من سماعه، فذكر الواعظ لما يشعر بكرامة المخاطب ورفعة شأنه، وإباء ما ينمي إليه من الشرف أن يدوم على مثل ما يقترف: يقبل بالنفس على القبول، كما يقبل الجريح على من يضمد جراحه ويسكّن آلامه].

ألا وإنّ هذا الشعور - شعور الشرف والرفعة - ملازم للإنسان لا يفارقه، ولكنّه قد يضعف حتّى لا يظهر له أثر. وفي تحريك الواعظ له، اعتراف ضمنيّ بكرامة وفضل للموعوظ، يشفعان له بما يستلزمه الوعظ من مظنّة الإهانة، فيسهل احتماله ويقرب قبوله.

شعور العزة والكرامة أمر شريف يحييه الإيمان في نفوس المؤمنين الصادقين بل يستلزمه على وجه أكمل؛ لأنّ صاحب الإيمان الصحيح يرى أنّ له نسبة إلى الربّ العظيم خالق السماوات والأرض، وأنّه سنده وممدّه، وعند ذلك تعلو نفسه وترتفع كما قيل:
قوم يخالجهم زهو بسيّدهم   والعبد يزهو على مقدار مولاه
من كان يشعر لنفسه بقيمة، أو يجد لها حقاً في أن تعزّ وتكرم، تراه إذا خلا بنفسه وتذكّر أنّه ألمّ بنقيصة يتألّم ويتململ ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم.

السابقالتالي
2 3 4 5