الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ أَتَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ ٱلْكِتَٰبَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } * { وَٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلَٰوةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى ٱلْخَٰشِعِينَ } * { ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـٰقُواْ رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَٰجِعُونَ }

الكلام موجّه إلى بني إسرائيل، وقد تقدم في الآيات السابقة أنّ الله ذكرهم بنعمته، وأمرهم بالوفاء بعهده، وأن يرهبوه ويتّقوه وحده، وأن يؤمنوا بالقرآن، ونهاهم أن يكونوا أوّل كافر به، وأن يشتروا بآياته ثمناً قليلا، وأن يلبسوا الحقّ بالباطل ويكتموه عمداً. ثمّ أمرهم بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وطفق في هذه الآيات يوبّخهم على سيرتهم المعوجّة في الدين، ويهديهم إلى طريق الخروج منها.

اليهود كسائر الملل يدّعون الإيمان بكتابهم والعمل به، والمحافظة على أحكامه والقيام بما يوجبه، ولكنّ الله تعالى علّمنا أنّ من الإيمان - بل ممّا يسمّى في العرف إيماناً - ما لا يعبأ به، فيكون وجوده كعدمه، وهو الإيمان الذي لا سلطان له على القلب، ولا تأثير له في إصلاح العمل، كما قال:وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } [البقرة: 8] وكانت اليهود في عهد بعثته عليه الصلاة والسلام قد وصلوا في البعد عن جوهر الدين إلى هذا الحدّ. كانوا - ولا يزالون - يتلون الكتاب تلاوة يفهمون بها معاني الألفاظ، ويجلّون أوراقه وجلده، ولكنّهم ما كانوا يتلونه حقّ تلاوته؛ لأنّ الذين يتلونه حقّ تلاوته أولئك يؤمنون به كما قال تعالى وعلى الوجه الذي يرضاه تعالى: يتلون ألفاظه وفيها البشارة بالنّبي صلى الله عليه وسلم ويأمرون بالعمل بأحكامه وآدابه من البرّ والتقوى. ولكنّ الأحبار القارئين الآمرين الناهين، ما كانوا يبيّنون من الحقّ إلاّ ما يوافق أهواءهم وتقاليدهم، ولا يعملون بما فيه من الأحكام، إلاّ إذا لم يعارض حظوظهم وشهواتهم. فقد عهد الله إليهم في الكتاب أنّه يقيم من إخوانهم نبيّاً يقيم الحقّ، وفرض عليهم الزكاة، ولكنّهم كانوا يحرفون البشارة بالنّبي صلى الله عليه وسلم ويؤلونها. ويحتالون لمنع الزكاة فيمنعونها، وجعلت لهم مواسم واحتفالات دينيّة تذكّرهم بما آتى الله أنبياءهم من الآيات، وما منحهم من النعم؛ لينشطوا إلى إقامة الدين والعمل بالكتاب، ولكنّ القلوب قست بطول الأمد، ففسقت النفوس عن أمر ربها. وهذه التوراة التي بين أيديهم لا تزال حجّة عليهم، فلو سألتهم عما فيها من الأمر بالبرّ والحثّ على الخير لاعترفوا وما أنكروا، ولكن أين العمل الذي يهدي إليه الإيمان، فيكون عليه أقوى حجّة وبرهان.

كذلك كان شأن أحبار اليهود وعلمائهم في معرفة ظواهر الدين بالتفصيل، وكان عامّتهم يعرفون من الدين العبادات العامّة والإحتفالات الدينيّة وبعض الأمور الأخرى بالإجمال، ويرجع المستمسّك منهم بدينه في سائر أموره إلى الأحبار فيقلّدهم فيما يأمرونه به، وكانوا يأمرون بما يرونه صواباً فيما ليس لهم فيه هوىً، وإلاّ لجأوا إلى التأويل والتحريف والحيلة، ليأخذوا من الألفاظ ما يوافق الهوى ويصيب الغرض، فإذا وجّه الخطاب في قوله تعالى: { أَتَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } إلى حملة الكتاب، فذاك لأنّ الأمر والنهي وظيفتهم، وإذا كان عامّاً، فذاك لأنّ شأن العامّة فيما يعرفون الدين بالإجمال كشأن الرؤساء فيما يعرفون بالتفصيل، ولا يكاد يوجد أحد لا يأمر بخير ولا بحثّ على برّ، فإذا كان الآمر لا يأتمر بما يأمر به، فالحجّة قائمة عليه بلسانه.

السابقالتالي
2 3 4 5 6