الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ يَٰبَنِي إِسْرَائِيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِيۤ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّٰيَ فَٱرْهَبُونِ } * { وَآمِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُوۤاْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَٰتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّٰيَ فَٱتَّقُونِ } * { وَلاَ تَلْبِسُواْ ٱلْحَقَّ بِٱلْبَٰطِلِ وَتَكْتُمُواْ ٱلْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } * { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلٰوةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَٰوةَ وَٱرْكَعُواْ مَعَ ٱلرَّٰكِعِينَ }

لا يزال الكلام في الكتاب وكونه لا ريب فيه وبيان أحوال الناس وأصنافهم في أمره. وقد قلنا إنّ التفنّن في مسائل مختلفة منتظمة في سلك موضوع واحد هو من أنواع بلاغة القرآن وخصائصه المدهشة، التي لم تسبق لبليغ، ولن يبلغ شأوه فيها بليغ. ذكر الكتاب أنّه لا ريب فيه، ثمّ ذكر اختلاف الناس فيه فابتدأ بالمستعدّين للإيمان به المنتظرين للهدي الذي يضيء نوره منه، وثنّى بالمؤمنين، وثلّث بالكافرين، وقفّى عليهم بالمنافقين. ثمّ ضرب الأمثال لفرق الصنف الرابع، ثم طالب الناس كلّهم بعبادته، ثمّ أقام البرهان على كون الكتاب منزّلاً من الله على عبده محمّد صلى الله عليه وسلم، وتحدَّى المرتابين بما أعجزهم، ثمّ حذّر وأنذر، وبشّر ووعد، ثمّ ذكر المثل والقدوة وهو الرسول، وذكر إختلاف الناس فيه كما ذكر إختلافهم، في الكتاب. ثمّ حاجّ الكافرين، وجاءهم بأنصع البراهين، وهو إحياؤهم مرّتين وإماتتهم مرّتين، وخلق السماوات والأرض لمنافعهم، ثمّ ذكر خلق الإنسان وبيّن أطواره. ثمّ طفق يخاطب الأمم والشعوب الموجودة في البلاد التي ظهرت فيها النبوّة تفصيلا، فبدأ في هذه الآيات بذكر اليهود للمعنى الذي نذكره. والكلام لم يخرج - بهذا التنويع - عن انتظامه في سلكه، وحسن اتّساقه في سبكه، فهو دائر على قطب واحد في فلكه، وهو الكتاب، والمرسل به، وحاله مع المرسل إليهم.

قال تعالى: { يَٰبَنِي إِسْرَائِيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ }. أقول: إسرائيل لقب نبيّ الله يعقوب ابن نبيّه إسحاق ابن نبيّه وخليله إبراهيم (ع. م) قيل معناه: الأمير المجاهد مع الله. والمراد ببنيه: ذريّته من أسباطه الإثني عشر؛ وأطلق عليهم لقبه في كتبهم وتواريخهم، كما تسمّي العرب القبيلة كلّها باسم جدّها الأعلى. ولما كانت سورة البقرة أوّل السور المدنيّة الطول، وكان جلّ يهود بلاد العرب في جوارها؛ دعاهم الله تعالى فيها إلى الإسلام، وأقام عليهم الحجج والبراهين، وبيّن لهم من حقيقة دينهم وتاريخ سلفهم ما لم يكن يعلمه أحد من قومه المجاورين لهم، فضلا عن أهل وطنه بمكّة المكرّمة، قال شيخنا في سياق درسه ما مثاله:

اختصّ بني إسرائيل بالخطاب اهتماماً بهم؛ لأنّهم أقدم الشعوب الحاملة للكتب السماويّة والمؤمنة بالأنبياء المعروفين، ولأنّهم كانوا أشدّ الناس على المؤمنين، ولأنّ في دخولهم في الإسلام من الحجّة على النصارى وغيرهم أقوى ممّا في دخول النصارى من الحجّة عليهم، وهذه النعمة التي أطلقها في التذكير لعظم شأنها، هي نعمة جعل النبوّة فيهم زمناً طويلا (أو أعمّ) ولذلك كانوا يسمّون شعب الله كما في كتبهم. وفي القرآن إن الله اصطفاهم وفضلهم، ولا شكّ أنّ هذه المنقبة نعمة عظيمة من الله منحهم إيّاها بفضله ورحمته، فكانوا بها مفضّلين على العالمين من الأمم والشعوب، وكان الواجب عليهم أن يكونوا أكثر الناس لله شكراً، وأشدّهم لنعمته ذكراً، وذلك بأن يؤمنوا بكلّ نبيّ يرسله لهدايتهم، ولكنّهم جعلوا النعمة حجّة الإعراض عن الإيمان وسبب إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنّهم زعموا أنّ فضل الله تعالى محصور فيهم، وأنّه لا يبعث نبيّاً إلاّ منهم؛ ولذلك بدأ الله تعالى خطابهم بالتذكير بنعمته، وقفّى عليه بالأمر بالوفاء بعهده.

السابقالتالي
2 3 4 5