الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ }

أقول: روي عن ابن عباس رضي الله عنه: أنّ المراد بالمؤمنين هنا مَنْ يؤمن بالنبيّ والقرآن من أهل الكتاب، وبالمؤمنين فيما قبلها من يؤمن من مشركي العرب. واختاره ابن جرير وآخرون. وعن مجاهد وأبي العالية والربيع بن أنس وقتادة: أنّ المؤمنين في الآيتين قسم واحد، وهو كلّ مؤمن وإنّما تعدّد ما يؤمنون به. فالعطف فيهما عطف الصفات لا عطف الموصوفين. وثَمّ قول ثالث شاذّ، وهو: أنّ الآيتين في مؤمني أهل الكتاب. وقد بيّنا قول شيخنا وسيأتي شرحه. والمراد على كلّ رأي من قوله تعالى: { وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ }: الإيمان التفصيليّ بكلّ ما أنزله الله تعالى في القرآن. وأمّا قوله: { وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ }: فيكفي فيه الإيمان الإجماليّ. وقال شيخنا ما مثاله:

هذه هي الطبقة الثانية من المتّقين، وأعيد لفظ (الذين) لتحقيق التمايز بين الطبقتين. وهذه الطبقة أرقى من الطبقة الأولى؛ لأنّ أوصافها تقتضي الأوصاف التي أجريت على تلك وزيادة، فالقرآن يكون هدىً لها بالأولى، ومعنى كونه هدىً لها: إنّه يكون إمامها في أعمالها وأحوالها، لا تحيد عن النهج الذي نهجه لها، كما ذكرنا.

ما كلّ من أظهر الإيمان بما ذكر مهتد بالقرآن. فالمؤمنون بالقرآن على ضروب شتّى، ونرى بيننا كثيرين ممن إذا سُئل عن القرآن قال: هو كلام الله ولا شكّ، ولكن إذا عرضت أعماله وأحواله على القرآن نراها مباينةً له كلّ المباينة. القرآن ينهى عن الغيبة والنميمة والكذب، وهو يغتاب ويسعى بالنميمة ولا يتأثّم من الكذب. القرآن يأمر بالفكر والتدبّر، وهو كما وصف القرآن المكذّبين بقوله تعالى فيهم:ٱلَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ } [الذاريات: 11] لا يفكّر في أمر آخرته، ولا في مستقبله ولا مستقبل أمّته، ولا يتدبّر الآيات والنذر، ولا الحوادث والعبر.

إنّ المؤمن الموقن المذكور في الآية الكريمة هو الذي يزيّن أعماله وأخلاقه باستكمال ما هدي إليه من القرآن دائماً، ويجعله معياراً يعرض عليه تلك الأعمال والأخلاق، ليتبيّن: هل هو مهتد به أم لا؟ مثال ذلك: الصلاة. يصفها القرآن بأنّها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وقال في المصلّين:إِنَّ ٱلإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ ٱلْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلاَّ ٱلْمُصَلِّينَ } [المعارج: 19-22] فبيّن أنّ الصلاة تقتلع الصفات الذميمة الراسخة التي تكاد تكون فطريّة. فمَنْ لم تنهَه صلاته عن الفحشاء والمنكر، ولم تقتلع من نفسه جذور الجبن والهلع. وتصطلم جراثيم البخل والطمع، فليعلم أنّه ليس مصلّياً في عرف القرآن، ولا مستحقّاً لما وعد عباده الرحمن.

أما لفظ " الإنزال " فالمراد به: ما ورد من جانب الربوبية الرفيع الأعلى، وأوحى إلى العباد من الإرشاد الإلهيّ الاسميّ، وسمّي إنزالا لما في جانب الألوهيّة من ذلك العلوّ.

السابقالتالي
2 3 4