الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْنَا ٱهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } * { وَٱلَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَٰتِنَآ أُولَـٰئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ }

أمرهم الله تعالى بالهبوط مرّتين، فالأولى بيان لحالهم في أنفسهم بعد الهبوط من تلك الجنّة أو الخروج من ذلك الطور، وهو أنّ حالهم تقتضي العداوة والإستقرار في الأرض والتمتع بها، وعدم الخلود فيها، والثانية بيان لحالهم من حيث الطاعة والمعصية وآثارهما، وهي أنّ حالة الإنسان في هذا الطور لا تكون عصياناً مستمرّاً شاملا، ولا تكون هدىً وإجتباء عامّاً - كما كان يفهم لو اقتصر على ذكر توبة الله على آدم وهدايته واجتبائه - وإنّما الأمر موكول إلى إجتهاد الإنسان وسعيه، ومن رحمة الله تعالى به أن يجعل في بعض أفراده الوحي ويعلّمهم طرق الهداية، فمن سلكها فاز وسعد، ومن تنكّبها خسر وشقي، هذا هو السرّ في إعادة ذكر الهبوط لا أنّه أعيد للتأكيد كما زعموا.

قال تعالى: { قُلْنَا ٱهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً } أي فقد انتهى طور النعيم الخالص والراحة العامّة، وادخلوا في طور لكم فيه طريقان: هدىً وضلال، إيمان وكفران، فلاح وخسران { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى } من رسول مرشد وكتاب مبين { فَمَن تَبِعَ هُدَايَ } الذي أشرّعه، وسلك صراطي المستقيم الذي أحدّده { فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } من وسوسة الشيطان، ولا ممّا يعقبها من الشقاء والخسران { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } على فوت مطلوب، أو فقد محبوب؛ لأنّهم يعلمون بهذه الهداية أنّ الصبر والتسليم ممّا يرضي الله تعالى ويوجب مثوبته، ويفتح للإنسان باب الإعتبار بالحوادث، ويقوّيه على مصارعة الكوارث، فيكون له من ذلك خير عوض عمّا فاته، وأفضل تعزية عمّا فقده.

قال الأستاذ الإمام ما مثاله: الخوف: عبارة عن تألّم الإنسان من توقّع مكروه يصيبه، أو توقّع حرمان من محبوب يتمتّع به أو يطلبه. والحزن: ألم يلمّ بالإنسان إذا فقد ما يحبّ، وقد أعطانا الله - جلّ ثناؤه - الطمأنينة التامّة في مقابلة ما تحدثه كلمة (اهبطوا) من الخوف من سوء المنقلب، وما تثيره من كوامن الرعب، فالمهتدون بهداية الله تعالى لا يخافون ممّا هو آت، ولا يحزنون على ما فات؛ لأن اتّباع الهدى يسهل عليهم طريق اكتساب الخيرات، ويعدّهم لسعادة الدنيا والآخرة، ومن كانت هذه وجهته، يسهل عليه كلّ ما يستقبله، ويهون عليه كلّ ما أصابه أو فقده؛ لأنّه موقن بأنّ الله يخلفه، فيكون كالتعب في الكسب، لا يلبث أن يزول بلذّة الريح الذي يقع أو يتوقّع.

وإذا قال قائل: إنّ الدين يقيّد حريّة الإنسان ويمنعه بعض اللذّات التي يقدر على التمتّع بها، ويحزنه الحرمان منها، فكيف يكون هو المأمن من الأحزان، ويكون باتّباعه الفوز وبتركه الخسران؟ فجوابه: إنّ الدين لا يمنع من لذّة إلاّ إذا كان في إصابتها ضرر على مصيبها، أو على أحد إخوانه من أبناء جنسه الذين يفوته من منافع تعاونهم إذا آذاهم أكثر ممّا يناله بالتلذّذ بإيذائهم، ولو تمثّلت لمستحلّ اللذّة المحرّمة مضارّها التي تعقبها في نفسه وفي الناس، وتصوّر ما لها من التأثير في فساد العمران لو كانت عامّة، وكان صحيح العقل معتدل الفطرة لرجع عنها متمثّلاً بقول الشاعر:

السابقالتالي
2 3