الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَٰئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَٱسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلْكَٰفِرِينَ }

بعدما عرّف الله الملائكة بمكانة آدم، ووجه جعله خليفةً في الأرض، أمرهم بالخضوع له وعبّر عن ذلك بالسجود، فقال: { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَٰئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ } وهو سجود لا نعرف صفته، ولكنّ أصول الدين تعلّمنا أنّه ليس سجود عبادة إذ لا يعبد إلاّ الله تعالى.

والسجود في اللغة: التطامن والخضوع والإنقياد، وأعظم مظاهره الخرور نحو الأرض للأذقان ووضع الجبهة على التراب، وكان عند بعض القدماء من تحيّة الناس للملوك والعظماء، ومنه سجود يعقوب وأولاده ليوسف عليه السلام. والسجود لله تعالى قسمان: سجود العقلاء المكلّفين له، تعبّداً على الوجه المشروع، وسجود المخلوقات كلّها لمقتضى إرادته فيها. قال تعالى:وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً } [الرعد: 15] الآية وقال:وَٱلنَّجْمُ وَٱلشَّجَرُ يَسْجُدَانِ } [الرحمن: 6] وفي معناهما آيات.فَسَجَدُوۤاْ إِلاَّ إِبْلِيسَ } [الأعراف: 11، طه: 116] أي سجدوا كلّهم أجمعون إلاّ إبليس وهو فرد من أفراد الملائكة، كما يفهم من الآية وأمثالها في القصّة إلاّ آية الكهف فإنّها ناطقة بأنّه كان من الجنّوَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاۤئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُوۤاْ إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ ٱلْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } [الكهف: 50] وليس عندنا دليل على أنّ بين الملائكة والجنّ فصلا جوهريّاً يميّز أحدهما عن الآخر، وإنّما هو إختلاف أصناف، عندما تختلف أوصاف، كما ترشد إليه الآيات. فالظاهر أنّ الجنّ صنف من الملائكة، وقد أطلق في القرآن لفظ الجنّة على الملائكة على رأي جمهور المفسّرين في قوله تعالى:وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ٱلْجِنَّةِ نَسَباً } [الصافات: 158] وعلى الشياطين في آخر سورة الناس [وعلى كلّ حال فجميع هؤلاء المسمّيات بهذه الأسماء من عالم الغيب لا نعلم حقائقها ولا نبحث عنها ولا نقول بنسبة شيء إليها، ما لم يرد لنا فيه نصّ قطعيّ عن المعصوم صلى الله عليه وسلم وصف الله تعالى إبليس بأنّه { أَبَىٰ } السجود والإنقياد { وَٱسْتَكْبَرَ } ، فلم يمتثل أمر الحقّ ترفّعاً عنه، وزعماً بأنّه خير من الخليفة عنصراً، وأزكى جوهراً، كما حكى الله تعالى عنه في غير هذه السورة:قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [الأعراف: 12]. والإستكبار بمعنى التكبّر، وهو: الظهور بصفة الكبرياء التي من آثارها الترفّع عن الحقّ، كأنّ السين والتاء للإشعار بأنّ الكبر ليس من طبيعة إبليس ولكنّه مستعدّ له، ثمّ قال تعالى بعد وصفه بالإباء والإستكبار، { وَكَانَ مِنَ ٱلْكَٰفِرِينَ } قال بعض المفسّرين: كان من حقّ الترتيب أن يقال: كان من الكافرين واستكبر وأبى؛ لأنّ الكفر عنده سبب الإستكبار والإستكبار سبب الإباء، ومثل هذا المفسّر يعلّل مخالفة الترتيب الطبيعيّ في النظم برعاية الفاصلة. قال الأستاذ: ولكنّ نظم الآية جاء على مقتضى الطبيعة في الذكر، فإنّه يفيد أنّ الله تعالى أراد أن يبيّن الفعل أوّلاً؛ لأنّه المقصود بالذات، وهو الإباء ثمّ يذكر سببه وعلّته وهو الإستكبار ثمّ يأتي بالأصل في العلّة والمعلول والسبب والمسبّب وهو الكفر.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8