الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ }

الإيمان: هو التصديق الجازم المقترن بإذعان النفس وقبولها واستسلامها. وآيته العمل بما يقتضيه الإيمان عند عدم الصارف الذي يختلف بإختلاف درجات المؤمنين في اليقين. والغيب: ما غاب علمه عنهم، كذات الله تعالى وملائكته والدار الآخرة. وإقامة الصلاة: الإتيان بهذه العبادة الروحيّة البدنيّة على أكمل وجه ممكن. وللصلاة صورة وروح، فصورتها عبادة الأعضاء، وروحها عبادة القلب، كما يعلم ممّا يأتي. وجمهور المفسّرين على أنّ هذه الآية في المسلمين من العرب أو مطلقاً. وما بعدها فيمن أسلم من أهل الكتاب خاصّة. وفسّرهما شيخنا تفسيراً هو أقرب إلى مدلول النظم، وإن كان أبعد عن الروايات فقال ما مثاله:

الناس قسمان: مادّيّ لا يؤمن إلاَّ بالحسّيّات، وغير مادّيّ يؤمن بما لا يدركه الحسّ - أي بما غاب عن المشاعر متى أرشد إليه الدليل أو الوجدان السليم. ولا شكّ أنّ الإيمان بالله وملائكته - وهي جنود غائبة لها مزايا وخواصّ يعلمها سبحانه وتعالى - وباليوم الآخر، إيمان بالغيب. ومن لا يؤمن بالله لا يمكن أن يهتدي بالقرآن، ومَنْ يتصدَّى لهدايته لابدّ له أن يقيم الحجّة العقليّة على أنّ لهذا العالم إلهاً متّصفاً بصفات الكمال التي لا تتحقّق الألوهيّة إلاَّ بها، ثمّ يقنعه بأنّ هذا القرآن هداية من لدنه تعالى.

لذلك وصف الله المتّقين الذين يهتدون بالقرآن بقوله: { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } والإيمان بالغيب هو الإعتقاد بموجود وراء المحسوس. وقد كتب الأستاذ الإمام في صاحبه ما نصّه:

وصاحب هذا الإعتقاد واقف على طريق الرشاد وقائم على أوّل النهج، لا يحتاج إلاَّ إلى من يدلّه على المسلك، ويأخذ بيده إلى الغاية. فإنّ من يعتقد بأنّ وراء المحسوسات موجودات يصدّق بها العقل، وإن كانت لا يأتي عليها الحسّ، إذا أقمت له الدليل على وجود فاطر السماوات والأرض المستعلي عن المادّة ولواحقها، المتّصف بما وصف به نفسه على ألسنة رسله، سهل عليه التصديق وخفّ عليه النظر في جليّ المقدمات وخفيّها، وإذا جاء الرسول بوصف اليوم الآخر، أو بذكر عالم من العوالم التي استأثر الله بعلمها، كعالم الملائكة مثلاً، لم يشقّ على نفسه تصديق ما جاء به الخبر بعد ثبوت النبوّة؛ لهذا جعل الله سبحانه هذا الوصف في مقدّمة أوصاف المتّقين الذين يجدون في القرآن هدىً لهم.

وأمّا من لا يعرف من الموجود إلاّ المحسوس، ويظنّ أنّ لا شيء وراء المحسوسات وما اشتملت عليه، فنفسه تنفّر من ذكر ما وراء مشهوده أو ما يشبه مشهوده، وقلّما تجد السبيل إلى قلبه إذا بدأته بدعواك، نعم قد توصلك المجاهدة بعد مرور الزمان في إيراد المقدمات البعيدة، والأخذ به في الطرق المختلفة، إلى تقريبه ممّا تطلب، ولكن هيهات أن ينصرك الصبر، أو يخضعه القهر، حتّى يتمّ لك منه الأمر، فمثل هذا إذا عرض عليه القرآن نبا عنه سمعه، ولم يجمل من نفسه وقعه.

السابقالتالي
2 3 4