الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَٰتاً فَأَحْيَٰكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } * { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّٰهُنَّ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

الكلام متّصل بما قبله، ومرتبط به ارتباطاً محكماً، والخطاب للفاسقين الذين يضلّون بالمثل، فإنّه وصفهم أوّلاً بنقض العهد الإلهيّ الموثق، وقطع ما أمر به سبحانه أن يوصل، سواء كان الأمر أمر تكوين وهو السنن الكونيّة، أو أمر تشريع وهو الديانة السماويّة، ثمّ بعد هذا البيان جاء بهذا الاستفهام التعجيبيّ عن صفة كفرهم مقترناً بالبرهان الناصع على أنّه لا وجه له، ولا شبهة تسوّغ الإقامة عليه، فقال: { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ } أي بأيّ صفة من صفات الكفر بالله تعالى تأخذون، وعلى أيّة شبهة فيه تعتمدون، وحالكم في موتتيكم وحياتيكم تأبى عليكم ذلك ولا تدع لكم عذراً فيه؟ وبيّن هذه الحال بقوله: { وَكُنْتُمْ أَمْوَٰتاً فَأَحْيَٰكُمْ } أي والحال أنّكم كنتم قبل هذه النشأة الأولى من حياتكم الدنيا أمواتاً منبثّة أجزاؤكم في الأرض، بعضها في طبقتها الجامدة، وبعضها في طبقتها السائلة، وبعضها في طبقتها الغازيّة (الهوائيّة) لا فرق في ذلك بينها وبين أجزاء سائر الحيوان والنبات، فخلقكم أطواراً من سلالة من طين، فكنتم بالطور الأخير في أحسن تقويم، وفضّلكم على غيركم بما وهبكم من العقل والإدراك، وما سخّر لكم من الكائنات { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } بقبض الروح الحيّ الذي به نظام حياتكم هذه، فتنحلّ أبدانكم بمفارقته إيّاها وتعود إلى أصلها الميّت وتنبثّ في طبقات الأرض وتدغم في عوالمها، حتّى ينعدم هذا الوجود الخاصّ بها، { ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } حياة ثانية، كما أحياكم بعد الموتة الأولى بلا فرق، إلاّ ما تكون به الحياة الثانية أرقى في مرتبة الوجود وأكمل لمن يزكون أنفسهم في تلك، وأدنى منها وأسفل فيمن يدسّونها ويفسدون فطرتهاقَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } [الشمس: 9-10] { ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } فينبّئكم بما عملتم، ويحاسبكم على ما قدّمتم، ويجازيكم به. وأقول: إنّ تراخي الإرجاع إلى الله تعالى عن حياة البعث، عبارة عن تأخير الحساب والجزاء وطول زمن الوقوف والإنتظار، كما ورد في حديث الشفاعة العظمى وغيره. فإذا كان هذا شأنكم معه وهذا فضله عليكم، وهذا مبدأكم وذلك منتهاكم، فكيف تكفرون به وتنكرون عليه أن يضرب لكم مثلا تهتدون به، ويبعث فيكم رسولا منكم يتلوا عليكم آياته ويزكّيكم ويعلّمكم الكتاب والحكمة، ويعلّمكم ما لم تكونوا تعلمون من قيام مصالحكم في حياتكم الأولى، وسعادتكم في حياتكم الأخرى؟

لا يقال: كيف يحتجّ عليهم بالحياة الثانية قبل الإيمان بالوحي، الذي هو دليلها ومثبتها؟ لأنّه إحتجاج على مجموع الناس بما عليه الأكثرون منهم، ولا عبرة بالشذاذ المنكرين للبعث في هذا المقام؛ لأنّ الإحتجاج بالحياة الأولى بعد الموتة الأولى كاف للتعجّب من كفرهم بالله وإنكارهم عليه أن يضرب مثلا ما لهداية الناس، زعماً أنّ هذا لا يليق بعظمته، فإنّ من أوجد هذا الإنسان الكريم، وجعله في أحسن تقويم، وركّب صورته من تلك الذرّات الصغيرة، والنطفة المهينة الحقيرة، والعلقة الدمويّة أو الدوديّة، والمضغة اللحميّة،

السابقالتالي
2 3 4 5