الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }

كلّ ما تقدّم من الآيات في الإنفاق كان في الترغيب فيه وبيان فوائدها في أنفس المنفقين وفي المنفق عليهم وفي الأمّة التي يكفل أقوياؤها ضعفاءها وأغنياؤها فقراءها ويقوم فيها القادرون بالمصالح العامّة وفي آداب النفقة وفي المستحقّ لها وأحقّ الناس بها ونحو ذلك من الأحوال إلاّ ما يتعلّق بالزمان، فقد ذكره الله تعالى في قوله: { ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً } وفيه بيان عموم الأوقات مع عموم الأحوال من الإظهار والإخفاء، وفي تقديم الليل على النهار والسرّ على العلانية إيذان بتفضيل صدقة السرّ ولكن الجمع بين السرّ والعلانية يقتضي أنّ لكلّ منهما موضعاً تقتضيه الحال وتفضّله المصلحة لا يحلّ غيره محلّه، وتقدّم وجه كلّ في تفسيرإِن تُبْدُواْ ٱلصَّدَقَاتِ } [البقرة: 271] وهؤلاء الذين ينفقون أموالهم في كلّ وقت وكلّ حال لا يقبضون أيديهم مهما لاح لهم طريق للإنفاق هم الذين بلغوا نهاية الكمال في الجود والسخاء وطلب مرضاة الله تعالى. وقد ورد أنّ الآية نزلت في الصديق الأكبر عليه الرضوان إذ أنفق أربعين ألف دينار. قيل اتّفق أنّ كان عشرة منها بالليل وعشرة بالنهار وعشرة بالسرّ وعشرة بالعلانية. ونقل الألوسي عن السيوطي أنّ خبر تصدّقه بأربعين ألفاً رواه ابن عساكر في تاريخه عن عائشة، ولكن ليس فيه أنّ الآية نزلت في ذلك. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وغيرهما بسند ضعيف عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّها نزلت في علي رضي الله عنه كانت له أربعة دراهم فأنفق بالليل درهماً وبالنهار درهماً وسرّاً درهماً وعلانية درهماً. وفي رواية الكلبي: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما حملك على هذا؟ " قال: حملني أن أستوجب على الله الذي وعدني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا إنّ ذلك لك " والعبارة تدلّ على أنّه أنفق ذلك بعد نزول الآية. وأخرج ابن المنذر عن سعيد بن المسيّب أنّها نزلت في عثمان بن عفّان وعبد الرحمن بن عوف إذ أنفقا في جيش العسرة. وأخرج الطبراني وابن أبي حاتم أنّها نزلت في أصحاب الخيل وفي إسناد هذه الرواية مجهولان. فلم يصحّ في سبب نزولها شيء. ومعناها عام أي الذين ينفقون أموالهم في كلّ وقت وكلّ حال، لا يحصرون الصدقة في الأيّام الفاضلة أو رؤوس الأعوام ولا يمتنعون عن الصدقة في العلانية إذا اقتضت الحال العلانية، وإنّما يجعلون لكلّ وقت حكمه ولكلّ حال حكمها إذ الأوقات والأحوال لا تقصد لذاتها، وقوله: { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ } يشعر بأنّ هذا الأجر عظيم، وفي إضافتهم إلى الربّ ما فيها من التكريم، { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } يوم يخاف البخلاء الممسكون من تبعة بخلهم { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } وقد تقدّم تفسير مثل هذا الوعد الكريم.