الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ وَجْهِ ٱللَّهِ وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } * { لِلْفُقَرَآءِ ٱلَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي ٱلأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ ٱلْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ ٱلنَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ }

أخرج ابن أبي شيبة عن سعيد بن جبير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تصدّقوا إلاّ على أهل دينكم " فأنزل الله تعالى: { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ } وأخرج ابن أبي حاتم وغيره عن ابن عبّاس أنّ النبي صلى الله عليه وسلم " كان يأمرنا أن لا نتصدّق إلاّ على أهل الإسلام حتى نزلت هذه الآية " وأخرج ابن جرير عنه أنّه قال: " كان أناس من الأنصار لهم أنسباء وقرابة، وكانوا يتّقون أن يتصدّقوا عليهم ويريدونهم أن يسلموا فنزلت " والمعنى أنّ هذه الوقائع تقدّمت نزولها؛ فلمّا نزلت كانت فصلاً فيها، وإلاّ فهي مرتبطة بما قبلها وما قبلها نزل في الفقراء عامّة. قال الأستاذ الإمام: إنّ الآية السابقة قد أطلقت إيتاء الفقراء وجعلته على عمومه الشامل للمؤمن والكافر. وقد أرشد الله المسلمين في هذه الآية إلى عدم التحرّج من الإنفاق على المشركين لأنّهم غير مهديين، فإنّ الرحمة بالفقير وسدّ خلّته لا ينبغي أن تتوقّف على إيمانه، بل من شأن المؤمن أن يكون خيره عامّاً، وأن يكون سابقاً لسائر الناس بالكرم والفضل.

أقول: والخطاب على ما ورد في حديث سعيد وحديث ابن عبّاس الأول خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم لنهيه عن الإنفاق. وعلى هذا فالتوجيه عام موجّه إلى المؤمنين كافّة وإن جاء بضمير المخاطب المفرد. ويؤيّده كونه في سائر الآية بضمائر جمع المخاطبين. وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يكلّف هداية الكافرين بالفعل وإنّما كلّف البلاغ فقط، وأعلم أنّ أمر الناس في الاهتداء مفوّض إلى ربّهم وما وضعه لسير عقولهم وقلوبهم من السنن فغيره أولى بألا يكلّف ذلك. فليس علينا إذن أن نمنع الخير عن الكافر عقوبة له على كفره أو جذباً له إلى الإيمان واضطراراً له إلى الهداية، فإنّ الهداية ليست علينا { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ } بتوفيقه إلى النظر الصحيح المؤدّي إلى الإعتقاد الجازم الذي يثمر العمل. وأمّا الباعث على الإنفاق فيجب أن يكون ما أرشدنا إليه سبحانه في قوله: { وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ } إلخ. قالوا معنى هذا أنّ نفع الإنفاق في الآخرة خاص بكم. هكذا صرّح بعضهم بتقييد النفع بالآخرة وقال الأستاذ الإمام هنا: أي لأنّ نفعه عائد عليكم في الدنيا والآخرة. وسيأتي أنّه يجعله خاصّاً بالدنيا. ومعنى كونه خيراً في الدنيا أنّه يكفّ شرّ الفقراء ويدفع عنهم أذاهم فإنّ الفقراء إذا ضاق بهم الأمر واشتدّت بهم الحاجة يندفعون إلى الإعتداء على أهل الثروة بالسرقة والنهب والإيذاء بحسب استطاعتهم. ثمّ يسري شرّهم إلى غيرهم وربّما صار فساداً عامّاً بسوء القدوة، فيذهب بالأمن والراحة من الأمّة، وقد تقدّم لهذا الكلام نظير في موضع آخر.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8