الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ }

أرشدنا عزّ وجلّ في الآية إلى أنّه يجازي على كلّ صدقة وكلّ التزام لصدقة وبرّ لأنّ علمه محيط بكلّ عمل وكلّ قصد، لنتذكّر ذلك فتختار لأنفسنا أفضل ما نحبّ أن يعلمه عنّا. فقوله: { وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن نَّفَقَةٍ } يشتمل قليلها وكثيرها سرّها وعلانيتها ما كان منها في حقّ، وما كان منها في شرّ، ما كان عن إخلاص وما كان رثاء الناس. ما أتّبع منها بالمنّ والأذى وما لم يتّبع بشيء منهما وقوله: { أَوْ نَذَرْتُمْ مِّن نَّذْرٍ } يأتي فيه مثل ذلك ويشمل ما كان نذر قربة وتبرّر ونذر لجاج وغضب. فالأول: ما قصد به التزام الطاعة قربة لله تعالى بلا شرط ولا قيد لئلاّ يتهاون فيها كأن ينذر نفقة معيّنة أو صلاة نافلة أو بشرط حصول نعمة أو رفع نقمة. كقوله إن شفى الله فلاناً فعليّ - أو لله علي - أن أتصدّق بكذا أو أقف على الجمعية الخيرية كذا والثاني ما يقصد به حثّ النفس على شيء أو منعها عنه. كقوله إن كلّمت فلاناً فعليّ كذا. واتّفقوا على أنّه يجب الوفاء بالأول. وفي الثاني: أقوال. منها: أنّه يجب فيه كفّارة يمين بشرطه ومنها أنّه يخير بين الوفاء بما التزمه وبين كفّارة يمين، ولا محلّ هنا لتفصيل القول فيما ورد وما قيل في النذر. وإنّما نقول إنّه التزام فعل الشيء بلفظ يدلّ عليه كقول الناذر لله علي كذا أو على لله كذا أو نذرت لله كذا. وينبغي أن يكون في طاعة لأنّه لا يتقرّب إليه تعالى إلاّ بالطاعة. فإن نذر فعل معصية حرّم عليه أن يفعلها. وإن نذر مباحاً فعله لأن فسخ العزائم من النقص. ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم من نذرت أن تضرب بالدفّ وتغني يوم قدومه بالوفاء. وقد يقال إنّ هذا مستحبّ لا مباح. وقوله تعالى: { فَإِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُهُ } جواب الشرط أي فإنّه تعالى يعلم ما ذكر من النفقة أو النذر ويجازي عليه إن خيراً فخير وإن شرّاً فشرّ، فالجملة وعد ووعيد وترغيب وترهيب ثمّ أكّد ما فيها من الوعيد بقوله: { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } ينصرونهم يوم الجزاء فيدفعون عنهم العذاب بجاههم أو يفتدونهم منه بمالهم كقوله:مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ } [غافر: 18]. أقول: والظالمون في مقام الإنفاق هم الذين ظلموا أنفسهم إذ لم يزكّوها ويطهّروها من هذه الفحشاء البخل أو من رذائل الرياء والمنّ والأذى وظلموا الفقراء والمساكين بمنع ما أوجبه الله لهم وظلموا الملّة والأمّة بترك الإنفاق في المصالح العامّة وبما كانوا قدوة سيّئة لغيرهم فظلمهم عام شامل. فهل يعتبر بهذا أغنياء المسلمين وهم يرون أمّتهم قد صارت ببخلهم أبعد الأُمم عن الخير بعد أن كانت خير أمّة أُخرجت للناس؟ أما إنّهم لا يجهلون أنّ المال هو القطب الذي تدور عليه جميع مصالح الأمم في هذا العصر، وأنّهم لو شاءوا لانتشلوا هذه الأمّة من وهدتها، وعادوا بها إلى عزّتها، ولكنّهم قوم ظالمون، قساة لا يتوبون ولا يتذكّرون.