الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ ٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَٰقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي ٱلأرْضِ أُولَـۤئِكَ هُمُ ٱلْخَٰسِرُونَ }

وصف الضالّين بالفسوق ثمّ بيّن من حال فسوقهم نقض العهد الموثّق، وقطع ما يجب أن يوصل، والإفساد في الأرض: وسجّل بذلك عليهم الخسران وحصرهم في مضيقه، بحيث لا يسلم منه إلاّ من رجع عن فسوقه، أقول: فعلم بهذا أنّ المراد بإسناد الإضلال إليه تعالى في الآية السابقة، بيان سنّته تعالى في أصحاب هذه الأعمال من الفسّاق، وهو أنّهم يضلّون حتّى بما هو سبب من أشدّ أسباب الهداية تأثيراً، وهو المثل المذكور؛ بسبب رسوخهم في الفسق ونقضهم للعهد إلخ. وليس المعنى أنّه تعالى خلق الضلال فيهم خلقاً وأجبرهم عليه إجباراً.

العهد هنا لفظ مجمل لم يتقدّم الآيات ما يشعر به، ولم يتلُ فيما تلاها ما يبيّنه. وكذلك ما أمر الله به أن يوصل، ليس في سابق الآيات ولا في لاحقها ما يفسّره ويبيّن المراد منه، فما المعنى الذي يتبادر منهما إلى أفهام المخاطبين، ويصحّ أن يؤخذ من حال أولئك الفاسقين، الذين أنكروا على الله أن يضرب مثلا يقتدى به من البشر أو من العرب، أو الذين أنكروا الوحي لمجيء الأمثال القوليّة فيه بما يعدّ حقيراً من المخلوقات في عرف المتكبّرين والمتطرّفين منهم؟ دلّ ذكر العهد والسكوت عمّا يفسره. وإطلاق ما أمر الله به أن يوصل بدون بيان ما يفصّله، على أنّ الله تعالى ما وصفهم إلاّ بما هم متّصفون به، ولا حاجة إلى بيان المجمل بالقول إذا كان الوجود قد تكفّل ببيانه، والواقع قد فسّره بلسانه، ويرشد إلى فهم العهد الإلهيّ هنا، ما قلناه في معنى الفسوق فإنّ الفاسقين هم { ٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَٰقِهِ } فإذا كان معنى الفسوق: الخروج عن سنن الله تعالى في خلقه، التي هداهم إليها بالعقل والمشاعر، وعن هداية الدين بالنسبة إلى الذين أوتوه خاصّة، فعهد الله تعالى هو: ما أخذهم به بمنحهم ما يفهمون به هذه السنن المعهودة للناس بالنظر والإعتبار، والتجربة والإختيار، أو العقل والحواسّ المرشدة إليها، وهي عامّة، والحجّة بها قائمة على كلّ من وهب نعمة العقل، وبلغ سنّ الرشد سليم الحواسّ، ونقضه عبارة عن عدم استعمال تلك المواهب استعمالا صحيحاً، حتّى كأنّهم فقدوها وخرجوا من حكمها، كما قال تعالى:لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أُوْلَـٰئِكَ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَافِلُونَ } [الأعراف: 179] وكما قال فيهم أيضاً:صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } [البقرة: 171].

هذا هو القسم الأوّل من العهد الإلهيّ وهو العامّ الشامل، والأساس للقسم الثاني المكمّل الذي هو الدين. فالعهد: فطريّ خلقيّ، ودينيّ شرعيّ. فالمشركون نقضوا الأوّل، وأهل الكتاب الذين لم يقوموا بحقّه نقضوا الأوّل والثاني جميعاً، وأعني بالناقضين من أنكر المثل من الفريقين.

السابقالتالي
2 3