الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ ٱلشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ ٱلْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِٱلْفَحْشَآءِ وَٱللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } * { يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ }

فقوله تعالى: { ٱلشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ ٱلْفَقْرَ } معناه أنّه يخيّل إليكم بوسوسته أن الإنفاق يذهب بالمال، ويفضي إلى سوء الحال، فلا بدّ من إمساكه والحرص عليه استعداداً لما يولده الزمن من الحاجات وهذا هو معنى قوله تعالى: { وَيَأْمُرُكُم بِٱلْفَحْشَآءِ } فإنّ الأمر هنا عبارة عمّا تولّده الوسوسة من الإغراء. والفحشاء البخل وهي في الأصل كلّ ما فحش أي إشتدّ قبحه وكان البخل عند العرب من أفحش الفحش قال طرفة:
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي   عقيلة مال الفاحش المتشدّد
{ وَٱللَّهُ يَعِدُكُم } بما أنزله من الوحي وبما أودعه في النفوس الزكية من الإلهام الصحيح، والعقل الرجيح، وفي الفطر السليمة من حبّ الخير، والرغبة في البرّ { مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً } فإنّه جعل الإنفاق كفّارة لكثير من الخطايا وسبباً يفضل به المرء قومه ويسودهم أو يسود فيهم بما يجذب إليه من قلوب من يكون سبباً في رزقهم وهذا الفضل من الجاه بالحقّ هكذا قال الأستاذ الإمام. والمأثور عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّ الفضل هو ما يخلفه الله تعالى على المنفق من الرزق. ويؤيّده قوله تعالى:وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ } [سبأ: 39] وفي حديث الصحيحين " ما من يوم يصبح فيه العباد إلاّ وملكان ينزلان يقول أحدهما اللهمّ أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر اللهمّ أعط ممسكاً تلفاً " أي تلفاً لماله بأن يذهب حيث لا يفيده. ومعنى هذا الدعاء عندي: أن من سنّة الله أن يخلف على المنفق بما يسهل له من أسباب الرزق ويرفع من شأنه في القلوب، وأن يحرم البخيل من مثل ذلك. وعلى هذا يكون وعد الله تعالى بشيئين: أحدهما: لخير الآخرة وهو المغفرة. والثاني: لخير الدنيا وهو الخلف الذي يعطيه. وأقول إنّ من هذا الخلف الرزق المعنوي وهو الجاه الذي هو عبارة عن ملك القلوب فيدخل فيه ما قاله الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى: { وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } فهو إذا وعد أنجز لسعة فضله. ثمّ إنّه يعلم أين يضع مغفرته وفضله. بمثل هذا يفسّرون هذه الأسماء في هذه المواضع. وأقول: إنّ اسم " عليم " يفيد هنا أنّه سبحانه يعلم غيب العبد ومستقبله. والشيطان لا يعلم ذلك فوعده تغرير، لا يعبأ به العاقل النحرير.

ومن مباحث اللفظ في الآية: استعمال الوعد في الخير والشرّ وهو شائع لغةً، ثمّ جرى عرف الناس أن يخصّوا الوعد بالخير والإيعاد بالشرّ. فإذا ذكروا الوعد مع الشرّ أرادوا به التهكّم. على أنّ ما يعد به الشيطان من الفقر هو على تقدير الإنفاق، ويلزمه الوعد بالغنى مع البخل الذي يأمر به.

ثمّ قال: { يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ } فيبيّن لنا بعد ذكر ما يعد هو جلّ شأنه به وما يعد به الشيطان ما نحن في أشدّ الحاجة إليه للتمييز بين ما يقع في النفس مع الإلهام الإلهي والوسواس الشيطاني.

السابقالتالي
2 3 4