الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوٰلَهُمُ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } * { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ ٱلْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَآءُ فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَٱحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلأيَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ }

يقول: ذاك الذي تقدّم هو مثل أهل الرياء، وأصحاب المنّ والإيذاء، { وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوٰلَهُمُ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } أي لطلب رضوان الله ولتثبيت أنفسهم وتمكينها في منازل الإيمان والإحسان حتّى تكون مطمئنة في بذلها لا ينازعها فيه زلزال البخل ولا إضطراب الحرص لإيثارها حبّ الخير عن أمر الله على حبّ المال، عن هوى النفس ووسوسة الشيطان. وإنّما يكون هذا التثبيت بتعويد النفس على البذل حيث يفيد البذل حتّى يصير الجود لها طبعاً وخلقاً. وإنّما قال: " من أنفسهم " ولم يقل لأنفسهم لأنّ إنفاق المال في سبيل الله يفيد بعض التثبيت والطمأنينة، وإنّما كمال ذلك ببذل الروح والمال جميعاً في سبيله كما قال تعالى:إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ } [الحجرات: 15] وقد هدانا تعليل الإنفاق بهاتين العلّتين إلى أن نقصد بأعمالنا أمرين. أوّلهما: ابتغاء رضوانه لذاته تعبّداً له. وثانيهما: تزكية أنفسنا وتطهيرها من الشوائب التي تعوقها عن الكمال كالبخل والمبالغة في حبّ المال. على أنّ هذا وسيلة لذاك وفائدة كلّ من الأمرين عائدة علينا والله غني عن العالمين. فإذا صدقنا في القصدين صدق علينا هذا المثل وكنّا في نفع إنفاقنا { كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ } أي بستان بمكان مرتفع من الأرض - قرأ ابن عامر وعاصم بفتح راء ربوة والباقون بضمّها - قالوا: وما كان كذلك من الجنّات كان عمل الشمس والهواء فيه أكمل فيكون أحسن منظراً وأزكى ثمراً أمّا الأماكن المنخفضة التي لا تصيبها الشمس في الغالب إلاّ قليلاً فلا تكون كذلك. وقال بعضهم واختاره الإمام الرازي إنّ المراد بالربوة الأرض المستوية الجيّدة التربة بحيث تربو بنزول المطر عليها وتنمو كما قالفَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ } [الحج: 5] الآية ويؤيّده كون المثل مقابلاً لمثل الصفوان الذي لا يؤثّر فيه المطر. { أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ } أي فكان ثمرها مثلي ما كانت تثمر في العادة أو أربعة أمثاله على القول بأنّ ضعف الشيء مثله مرتين. والأكل كلّ ما يؤكل وهو بضمّتين وتسكن الكاف تخفيفاً، وبها قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو { فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ } أي فالذي يصيبها طل أو فطل يكفيها لجودة تربتها وكرم منبتها وحسن موقعها والطل المطر الخفيف المستدقّ القطر. أقول: وقد عرف بالاختبار أنّ الأرض الجيّدة في المواقع المعتدلة يكفيها القليل من الري لرطوبة ثراها وجودة هوائها فإنّ الشجر يتغذّى من الهواء كما يتغذّى من الأرض والمعنى: أنّ هذه الجنّة أُكلها دائم وظلّها، كثر ما يصيبها من المطر أو قلّ فإن لم يكن ثمرها مضاعفاً لم يكن معدوماً فإذا لا يكون طالبه قطّ محروماً.

السابقالتالي
2 3