الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ مَّثَلُ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَٱللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } * { ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } * { قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَٱللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ } * { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَٰتِكُم بِٱلْمَنِّ وَٱلأَذَىٰ كَٱلَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ ٱلنَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ }

أعاد الأستاذ الإمام التذكير هنا بأنّ من سنّة القرآن الحكيم مزج آيات الأحكام بآيات المواعظ والعبر والتوحيد، ليقرّر أمر الحكم وينصر النفوس على القيام به (ثمّ قال ما معناه بتصرّف) قد قلنا مراراً إنّ أمر الإنفاق في سبيل الله أشقّ الأمور على النفوس، لا سيّما إذا اتّسعت دائرة المنفعة فيما ينفق فيه، وبعدت نسبة من ينفق عليه عن المنفق، فإنّ كلّ إنسان يسهل عليه الإنفاق على نفسه وأهله وولده إلاّ أفراد من أهل الشحّ المطاع وهذا النوع من الإنفاق لا يوصف صاحبه بالسخاء ومن كان له نصيب من السخاء سهل عليه الإنفاق بقدر هذا النصيب فمن كان له أدنى نصيب فإنّه يرتاح إلى الإنفاق على ذوي القربى والجيران. فإن زاد أنفق على أهل بلده فأُمتّه فالناس كلّهم وذلك منتهى الجود والسخاء. وإنّما يصعب على المرء الإنفاق على منفعة من يبعد عنه، لأنّه فطر على أن لا يعمل عملاّ لا يتصوّر لنفسه فائدة منه وأكثر النفوس جاهلة باتّصال منافعها ومصالحها بالبعد عنها فلا تشعر بأنّ الإنفاق في وجوه البرّ العامّة كإزالة الجهل بنشر العلم ومساعدة العجزة والضعفاء وترقية الصناعات وإنشاء المستشفيات والملاجئ وخدمة الدين المهذّب للنفوس هو الذي تقوم به المصالح العامّة حتّى تكون كلّها سعيدة عزيزة فعلّمهم الله تعالى أنّ ما ينفقونه في المصالح يضاعف لهم أضعافاً كثيرة فهو مفيد لهم في دنياهم وحثّهم على أن يجعلوا الإنفاق في سبيله وابتغاء مرضاته ليكون مفيداً لهم في آخرتهم أيضاً، فذكر أولاً أنّ الإنفاق في سبيل الله بمنزلة إقراضه تعالى ووعد بمضاعفته أضعافاً كثيرة ثمّ ضرب الأمثال وذكر قصص الذين بذلوا أموالهم وأرواحهم في سبيله ثمّ ذكر البعث وإحياء الموتى وإنتهاءهم إلى الدار التي يوفون فيها أجورهم في يوم لا تنفع فيه فدية ولا خلّة ولا شفاعة وإنّما تنفعهم أعمالهم التي أهمّها الإنفاق في سبيله ثمّ ضرب المثل للمضاعفة. أي بعد أن قرّر أمر البعث بالدلائل والأمثال. إذ كان الإيمان به أقوى البواعث على بذل المال.

قال: { مَّثَلُ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } وهي ما يوصل إلى مرضاته من المصالح العامّة لا سيّما ما كان نفعه أعمّ وأثره أبقى { كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ } أي كمثل أبرك بزر في أخصب أرض نما أحسن نمو فجاءت غلّته مضاعفة سبعمائة ضعف وذلك منتهى الخصب والنماء. أي أنّ هذا المنفق يلقى جزاءه في الدنيا مضاعفاً أضعافاً كثيرة. كما قال في آية سابقة، فالتمثيل للتكثير لا للحصر ولذلك قال { وَٱللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ } فيزيده على ذلك زيادة لا تقدّر ولا تحصر. فذلك العدد لا مفهوم له وقيل يضاعف تلك المضاعفة التي ضرب لها المثل { وَٱللَّهُ وَاسِعٌ } لا ينحصر فضله ولا يحدّ عطاؤه { عَلِيمٌ } بمن يستحقّ المضاعفة من المخلصين الذين يهديهم إخلاصهم إلى وضع النفقات في مواضعها التي يكثر نفعها وتبقى فائدتها زمناً طويلاً كالمنفقين في إعلاء شأن الحقّ وتربية الأمم على آداب الدين وفضائله التي تسوقهم إلى سعادة المعاش والمعاد حتّى إذا ما ظهرت آثار نفقاتهم النافعة في قوّة ملّتهم وسعة انتشار دينهم وسعادة أفراد أمّتهم عاد عليهم من بركات ذلك وفوائده ما هو فوق ما أنفقوا بدرجات لا يمكن حصرها.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7