الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَٰسِقِينَ }

الآيات متّصلة بما قبلها لم يختلف النظم ولم يخرج الكلام عن الموضوع الأصليّ وهو الكتاب الذي لا ريب فيه، وحال الناس في الإيمان به وعدم الإيمان، ولا فصل في صحّة هذا الوصل بين أن يكون الكلام ردّاً على اليهود الذين أنكروا ضرب الأمثال بالمحقّرات - كالذباب والعنكبوت - كما يروى عن ابن عباس، أو ردّاً على المنافقين الذين أنكروا الأمثال في الآيات السابقة - بمستوقد النار والصيّب من السماء - زاعمين أنّه لا يليق بالله ضرب الأمثال. أو يكون المراد بالمثل القدوة تقريراً لنبوّة النبيّ صلى الله عليه وسلم. أمّا على الأوّل فيقال: إنّه إنّما نصّ هنا على نفي الإستحياء من ضرب أي مثل، ولم يذكر ذلك هناك عند تمثيل الأولياء، الذين اتّخذوهم من دون الله بالذباب والعنكبوت؛ لأنّ المقام هنا مقام ذكر الإعتراض الموجّه على القرآن، فيكون هذا مقام ردّ شبه المكابرين عنه. وأمّا على الثاني والثالث فهو أظهر، على أنّه لا حاجة في فهم الآية إلى ما قالوه في سببها، فإن لم تكن ردّاً لما قيل فهي ردّ لما قد يقال، أو يجول في خواطر أهل المكابرة والجدال، والمجاحدة والمحال.

والإستحياء - قال صاحب الكشّاف: إنّه من الحياء، وهو إنكسار وتغيّر في النفس يلمّ بها إذا نسب إليها، أو عرض لها فعل تعتقد قبحه، وفي الحالة الثانية يكون مانعاً من الفعل الذي يعرض، يقال: فلان يستحي أن يفعل كذا، أي إنّ نفسه تنكسر فتنقبض عن فعله، ويقال: إنه إستحيا من عمل كذا، أي إنّ نفسه انفعلت وتألّمت عندما عرض عليه عمله فرآه شيئا أو نقصاً. ويقال: حيّ بهذا المعنى، كأنّه أصيب في حياته، كما يقال: نسيّ إذا أصيب في نساه - وهو عرق يسمّونه عرق النِّسا بفتح النون - وحَشيّ إذا أصيب في حشاه وقالوا: إنّ الحياء ضعف في الحياة بما يصيب موضعها وهو النفس، فمعنى عدم إستحياء الله تعالى أنّه لا يعرض له ذلك الانكسار والإنفعال، ولا يعتريه ذلك التأثّر والضعف فيمتنع من ضرب المثل، بل هو يضرب من الأمثال الهادية والمطابقة لحال الممثل به، ما يعلم أنّه يجلي الحقائق ويؤثّر في القلوب. ولكنّ صاحب الكشّاف وغيره أرادوا أن يجعلوا الآية دليلا على إتّصاف الله تعالى بالحياء، فقالوا إنّ النفي خاصّ، ومثله إذا ورد على شيء يدلّ على أنّ ذلك الشيء قابل للإتّصاف بالمنفيّ، فمن لا قدرة له على شيء لا ينفي عنه، لا تقول: إنّ عيني لا تسمع وأذني لا ترى، وقالوا: إنّ معنى نفي الإستحياء: هو أنّ الله تعالى لا يرى من النقص أن يضرب مثلا بعوضة فما دونها؛ لأنّه خالق كلّ شيء، وقد ورد في الحديث نسبة الحياء إلى الله تعالى، والنافون له يؤوّلون ما ورد بأثره وغايته.

السابقالتالي
2 3 4 5