الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ وَبَشِّرِ ٱلَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّٰتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَٰرُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـٰذَا ٱلَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَٰبِهاً وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَٰجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ }

لمّا بيّن تعالى في الآية السابقة ما أعدّه للكافرين، الذين قامت عليهم الحجّة فجحدوا بها، أراد أن يبيّن في هذه الآية نصيب مقابل هؤلاء، وهم الذين ظهر لهم الدليل فآمنوا، ولاح لهم نور الهداية فاهتدوا، فالكلام متّصل بعضه ببعض؛ ولذلك عطف الجملة على ما قبلها، لأنّها متمّمة لفائدتها، إذ لا بدّ بعد بيان جزاء الكافرين، من بيان جزاء المؤمنين، والإرشاد: ترهيب وترغيب. والخطاب يصحّ أن يكون للنبيّ صلى الله عليه وسلم خاصّة، وأن يكون عامّاً لكلّ من يسمع الأمر من أهله، وقالوا: إنّ الأخير هو المعروف في لسان العرب والمفهوم عندهم من أمثال هذا الخطاب، كقوله تعالى:نَبِّىءْ عِبَادِي } [الحجر: 49] وقوله:وَٱضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلاً... } [يس: 13] فهو في عمومه جار مجرى الأمثال، والمخاطب الأوّل به هو الرسول على كلّ حال.

قال تعالى: { وَبَشِّرِ ٱلَّذِين آمَنُواْ } ولم يذكر بماذا آمنوا، لأنّ متعلّق الإيمان كان معروفاً عند المخاطبين، وهو الله تعالى وصفاته - التي ورد بها النقل الصريح، وأثبتها العقل الصحيح - والوحي ومن جاء به، والبعث والجزاء. فهذه هي الأصول التي كان يدعو إليها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فمن صدّقهم فيها كان مؤمناً ويصدّق بما يتبع ذلك من التفصيل. قال الأستاذ: ولا بدّ في تحقّق الإيمان من اليقين، ولا يقين إلاّ ببرهان قطعيّ لا يقبل الشكّ والإرتياب، ولا بدّ أن يكون البرهان على الألوهيّة والنبوّة عقليّاً، وإن كان الإرشاد إليها سمعيّاً، ولكن [لا ينحصر البرهان العقليّ المؤدّي إلى اليقين في تلك الأدّلة التي وضعها المتكلّمون وسبقهم إلى كثير منها الفلاسفة الأقدمون، وقلّما تخلص مقدّماتها من خلل، أو تصحّ طرقها من علل، بل قد يبلغ أمّيّ علم اليقين بنظرة صادقة في ذلك الكون الذي بين يديه، أو في نفسه إذا تجلّت بغرائبها عليه، وقد رأينا من أولئك الأمّيّين، ما لا يلحقه في يقينه آلاف من أولئك المتفنّنين، الذين أفنوا أوقاتهم في تنقيح المقدّمات وبناء البراهين، وهم أسوأ حالاً من أدنى المقلّدين].

وأقول: كان الأستاذ قد أطلق إشتراط البرهان العقليّ هنا، كما أطلقه في مواضع أُخرى تقدّم بعضها والبحث فيه، ثمّ قيّده هنا بما بيّن به خطأ بعض المتكلّمين في اشتراطهم البراهين المنطقيّة التي سمّوها قطعيّة، على ما فيها من خلل وعلل. والحقّ أنّ اطمئنان القلب بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من غير تردّد ولا إضطراب، كاف في النجاة في الآخرة، وأنّ أفضل الأدلّة ما أرشد إليه القرآن من النظر في آيات الله تعالى في الأنفس والآفاق، فبداهة العقل فيه كافية عند سليم الفطرة الذي لم يبتلِ بشكوك الفلاسفة وجدليّات المتكلّمين، ولا بتقليد المبطلين.

السابقالتالي
2 3 4 5