الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلْمَلإِ مِن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىۤ إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ٱبْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّالِمِينَ } * { وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوۤاْ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ ٱلْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِٱلْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ ٱلْمَالِ قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي ٱلْعِلْمِ وَٱلْجِسْمِ وَٱللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }

تمهيد في نسبة قصص القرآن إلى التاريخ والفرق بينهما

وبيان حال الأمم قبل القرآن وبعده

بدأ الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى تفسير هذه الآيات بمقدّمة في قصص القرآن، جعلها كالتمهيد لتفسيرها، فقال ما مثاله مع إيضاح: تقدّم في تفسيرأَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَٰرِهِمْ } [البقرة: 243] إنّ القرآن لم يعيّن أولئك القوم ولا الزمان ولا المكان اللذين كانوا فيهما. (يعني على القول بأنّها قصّة واقعة لا ضرب مثل كما قال عطاء) ثمّ ذكر هاهنا قصّة أخرى عن بني إسرائيل، فعيّن القوم وذكر أنّه كان لهم نبي ولم يذكر اسمه ولا الزمان ولا المكان اللذين حدثت فيهما القصّة، ولكنه ذكر بعد ذلك اسم طالوت وجالوت وداود.

يظنّ كثير من الناس الآن - كما ظنّ كثير ممّن قبلهم - إنّ القصص التي جاءت في القرآن يجب أن تتّفق مع ما جاء في كتب بني إسرائيل المعروفة عند النصارى بالعهد العتيق أو كتب التاريخ القديمة، وليس القرآن تاريخاً ولا قصصاً، وإنّما هو هداية وموعظة، فلا يذكر قصّة لبيان تاريخ حدوثها، ولا لأجل التفكّه بها أو الإحاطة بتفصيلها، وإنما يذكر ما يذكره لأجل العبرة كما قال:لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } [يوسف: 111] وبيان سنن الإجتماع كما قال:قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَٱنْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُكَذِّبِينَ } [آل عمران: 137] وقال:سُنَّتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ } [غافر: 85] وغير ذلك من الآيات.

والحوادث المتقدّمة منها ما هو معروف، والله تعالى يذكر من هذا وذاك ما شاء أن يذكر لأجل العبرة والموعظة، فيكتفي من القصّة بموضع العبرة ومحلّ الفائدة، ولا يأتي بها مفصّلة بجزئياتها التي لا تزيد في العبرة، بل ربّما تشغل عنها، فلا غرو أن يكون في هذه القصص التي يعظنا الله بها ويعلّمنا سننه ما لا يعرفه الناس؛ لأنّه لم يرو ولم يدوّن بالكتاب. وقد اهتدى بعض المؤرّخين الراقين في هذه الأزمنة إلى الإقتداء بهذا، فصار أهل المنزلة العالية منهم يذكرون من وقائع التاريخ ما يستنبطون منه الأحكام الإجتماعية، وهو الأمور الكليّة، ولا يحفلون بالجزئيات لما يقع فيها من الخلاف الذي يذهب بالثقة، ولما في قراءتها من الإسراف في الزمن والإضاعة للعمر بغير فائدة توازيه، وبهذه الطريقة يمكن إيداع ما عرف من تاريخ العالم في مجلّد واحد يوثّق به ويستفاد منه، فلا يكون عرضة للتكذيب والطعن، كما هو الشأن في المصنّفات التي تستقصي الوقائع الجزئية مفصّلة تفصيلا.

إنّ محاولة جعل قصص القرآن ككتب التاريخ، بإدخال ما يروون فيها على إنّه بيان لها هي مخالفة لسنّته، وصرف للقلوب عن موعظته، وإضاعة لمقصده وحكمته، فالواجب أن نفهم ما فيه، ونعمل أفكارنا في إستخراج العبر منه، ونزع نفوسنا عمّا ذمّه وقبّحه، ونحملها على التحلّي بما استحسنه ومدحه، وإذا ورد في كتب أهل الملل أو المؤرّخين ما يخالف بعض هذه القصص، فعلينا أن نجزم بأنّ ما أوحاه الله إلى نبيّه ونقل إلينا بالتواتر الصحيح هو الحقّ وخبره هو الصادق، وما خالفه هو الباطل، وناقله مخطئ أو كاذب، فلا نعدّه شبهة على القرآن، ولا نكلّف أنفسنا الجواب عنه، فإنّ حال التاريخ قبل الإسلام كانت مشتبهة الأعلام، حالكة الظلام، فلا رواية يوثّق بها، للمعرفة التامّة بسيرة رجال سندها، ولا تواتر يعتدّ به بالأولى، وإنّما انتقل العالم بعد نزول القرآن من حال إلى حال، فكان بداية تاريخ جديد للبشر، كان يجب عليهم - لو أنصفوا - أن يؤرّخوا به أجمعين اهـ.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9