الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَٰعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَٱللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }

القتال للدفاع عن الحقّ أو لحماية الحقيقة يتوقّف على بذل المال لتجهيز المقاتلة ولغير ذلك، لا فصل في الحاجة إلى هذا بين البدو والحضر، فإذا كانت مقاتلة القبائل البدوية لا تكلّف رئيسها أن يتولّى تجهيزها، بل يجهّز كلّ واحد نفسه، فكل واحد مطالب ببذل المال لتجهيز نفسه وإعانة من يعجز عن ذلك من فقراء قومه، وأمّا دول الحضارة فهي تحتاج في الاستعداد للمدافعة والمهاجمة ما لا يحتاج إليه أهل البادية، وقد كثرت نفقات الدول الحربية اليوم بارتقاء الفنون العسكرية، وتوقّف الحرب على علوم وفنون وصناعات كثيرة من قصّر فيها كان عرضة لسقوط دولته. لهذا قرن الله تعالى الأمر بالقتال، بالحثّ على بذل المال، فالمراد بالبذل هنا ما يعين على القتال، وما هو بمعناه من كلّ ما يعلي شأن الدين، ويصون الأمّة ويمنعها من عدوان العادين، ويرفع مكانتها في العالمين.

وقد ذكر حكم هذا الإنفاق في سبيل الله بعبارة تستفزّ النفوس، وأسلوب يحفّز الهمم، ويبسط الأكفّ بالكرم، فقال: { مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } فهذه العبارة أبلغ من الأمر المجرّد، ومن الأمر المقرون ببيان الحكمة، والتنبيه إلى الفائدة، والوجه في إختيار هذا الأسلوب هنا على ما قرّره الأستاذ الإمام: أنّ الداعية إلى البذل في المصالح العامّة ضعيفة في نفوس الأكثرين، والرغبة فيه قليلة، إذ ليس فيه من اللذّة والأريحية ما في البذل للأفراد، فاحتيج فيه للمبالغة في التأثير.

يدفع الغني إلى بذل شيء من فضل ماله لأفراد ممّن يعيش معهم أمور كثيرة، منها إزالة ألم النفس برؤية المعوزين والبائسين، ومنها اتّقاء حسد الفقراء، وإكتفاء شرّ شرارهم، والأمن من إعتدائهم، ومنها التلذّذ برؤية يده العليا، وبما يتوقّعه من إرتفاع المكانة في النفوس، وتعظيم من يبذل لهم وشكرهم وحبّهم، فإنّ السخي محبّب إلى جميع الناس من ينتفع منهم بسخائه ومن لا ينتفع، وإذا كان البذل إلى ذوي القربى أو الجيران، فحظّ النفس فيه أجلى، وشفاء ألم النفس به أقوى، فإن ألم جارك وقريبك آلم لك، ويتعذّر على الإنسان أن يكون ناعماً بين أهل البؤس والضرّاء، سعيداً بين الأشقياء، فكلّ هذه حظوظ للنفس في البذل للأفراد، تسهّل عليها امتثال أمر الله فيه وإن لم يكن مؤكّداً. وقد يكون فيها من الرياء وحبّ السمعة ما ينافي كونها قربة وتعبّداً.

وأمّا البذل الذي يراد هنا - وهو البذل للدفاع عن الدين وإعلاء كلمته، وحفظ حقوق أهله - فليس فيه شيء من تلك الحظوظ التي تسهل على النفس مفارقة محبوبها (المال) إلاّ إذا كان تبرّعاً جهرياً يتولّى جمعه بعض الحكّام والأمراء، أو يجمع بأمر الملوك والسلاطين، ولذلك يقلّ في الناس من يبذل المال في المصالح العامّة لوجه الله تعالى، فلهذا كان المقام يقتضي مزيد التأكيد، والمبالغة في الترغيب، وليس في الكلام ما يدرك شأو هذه الآية في تأثيرها، ولا سيّما موقعها هذا بعد بيان سنّة الله تعالى في موت الأمم وحياتها.

السابقالتالي
2 3 4 5 6