الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ حَافِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوَٰتِ وٱلصَّلَٰوةِ ٱلْوُسْطَىٰ وَقُومُواْ للَّهِ قَٰنِتِينَ } * { فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ }

كانت الآيات السابقة أحكاماً، بعضها في العبادات، وبعضها في الحدود والمعاملات، آخرها معاملة الأزواج، ورأينا من سنّة القرآن أن يختم كلّ حكم أو عدّة أحكام بذكر الله تعالى والأمر بتقواه، والتذكير بعلمه بحال العبد، وبما أعدّ له من الجزاء على عمله، وفي هذا ما فيه من نفخ روح الدين في الأعمال، وإشرابها حقيقة الإخلاص، ولكن هذا التذكير القولي بما يبعث على إقامة تلك الأحكام على وجهها، قد يغفل المرء عن تدبّره، ويغيب عن الذهن تذكّره، بإنهماك الناس في معايشهم واشتغالهم بما يكافحون من شدائد الدنيا، أو ما يلذّ لهم من نعيمها، ولهذه الضروب من المكافحات، والفنون من التمتّع باللذّات، سلطان قاهر على النفس، وحاكم مسخّر للعقل والحسّ، يتنكّب بالمرء سبيل الهدى، حتّى تتفرّق به سبل الهوى، فمن ثمّ كان المكلّف محتاجاً في تأديب الشهوات الحيوانية، إلى مذكّر يذكّره بمكانته الروحانية، التي هي كمال حقيقته الإنسانية، وهذا المذكّر هو الصلاة، فهي التي تخلع الإنسان من تلك الشواغل التي لا بدّ له منها، وتوجّهه إلى ربّه جلّ وعلا، فتكثر له مراقبته، حتى تعلو بذلك همّته، وتزكو نفسه، فتترفّع عن البغي والعدوان، وتتنزّه عن دناءة الفسق والعصيان، ويحبّب إليها العدل والإحسان، بل ترتقي في معارج الفضل إلى مستوى الإمتنان فتكون جديرة بإقامة تلك الحدود، وزيادة ما يحبّ الله تعالى من الكرم والجود؛ ذلك إنّ الصلاة تنهى بإقامتها على وجهها عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله فيها أعظم من جميع المؤثّرات وأكبر، فإذا كان الإنسان قد خلق هلوعاً، إذا مسّه الشرّ جزوعاً، وإذا مسّه الخير منوعاً، فقد استثنى الله تعالى من هذا الحكم الكلّي المصلّين، إذا كانوا على الصلاة الحقيقيّة محافظين. لهذا قال:

{ حَافِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوَٰتِ وٱلصَّلَٰوةِ ٱلْوُسْطَىٰ وَقُومُواْ للَّهِ قَٰنِتِينَ } قال بعض المفسّرين في وجه إختيار لفظ المحافظة على الحفظ: إنّ الصيغة على أصلها تفيد المشاركة في الحفظ، وهي هنا بين العبد وربّه كأنّه قيل: احفظ الصلاة يحفظك الله الذي أمرك بها، كقوله:فَٱذْكُرُونِيۤ أَذْكُرْكُمْ } [البقرة: 152] أو بين المصلّي والصلاة نفسها، أي احفظوها تحفظكم من الفحشاء والمنكر بتنزيه نفوسكم عنهما، ومن البلاء والمحن بتقوية نفوسكم عليهما كما قال:وَٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلَٰوةِ } [البقرة: 45]. وقال الأستاذ الإمام: قال حافظوا على الصلوات ولم يقل احفظوها؛ لأنّ المفاعلة تدلّ على المنازعة والمقاومة، ولا يظهر قول بعضهم إنّ المفاعلة للمشاركة؛ لأنّ الصلاة تحفظه كما يحفظها، إلاّ لو كانت العبارة حافظوا الصلوات، ولكنّه قال على الصلوات، أي اجتهدوا في حفظها والمداومة عليها اهـ. ولا يريد الأستاذ بهذا إنّ الصلاة لا تحفظ ممّا ذكر، وإنّما يريد أنّ لفظ حافظوا لا يدلّ على هذا المعنى الثابت في نفسه والذي أفهمه في المفاعلة على الشيء، هو فعله المرّة بعد المرّة، ومنه حافظ عليه وواظب عليه وداوم عليه، إلاّ إذا كانت { عَلَى } للتعليل كقاتله على الأمر، أي لأجله، فالمقاتلة فيه للمشاركة ولا يصحّ هنا، وحفظ الصلاة المرّة بعد المرّة على الاستمرار، عبارة عن الإتيان بها كلّ مرّة كاملة الشرائط والأركان العملية، كاملة الآداب والمعاني القلبية، فالشيء الذي يتعاهد بالحفظ دائماً هو الذي لا يلحقه النقص، وإلاّ لم يكن محفوظاً دائماً.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8