الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ ٱلرَّضَاعَةَ وَعلَى ٱلْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى ٱلْوَارِثِ مِثْلُ ذٰلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوۤاْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }

هذا انتقال من أحكام الطلاق إلى أحكام الرضاعة، وكلاهما من أحكام البيوت (العائلات) الهادية إلى كيفية التعامل بين الأزواج من المعاشرة بالمعروف وتربية الأطفال، فمن ثمّ عطف على ما قبله، وللمفسّرين في قوله { وَٱلْوَالِدَاتُ } ثلاثة أقوال:

القول الأول: إنّه خاصّ بالمطلّقات لوجوه: أحدها: إنّ الكلام السابق في أحكامهنّ وهذا من تتمته. ثانيها: إيجاب رزقهنّ وكسوتهنّ على الوالد، ولو كنّ أزواجاً لما كان هناك حاجة إلى هذا الإيجاب؛ لأنّ النفقة على الزوج التي في العصمة واجبة للزوجية لا للرضاع. ثالثها: إنّ المطلّقة عرضة لإهمال العناية بالولد وترك إرضاعه؛ لأنه يحول دون زواجها في الغالب ولما فيه من النكاية بالرجل، ولا سيّما الذي لم يتيسّر له استئجار ظئر تقوم مقام الوالدة، وهنا وجه. رابعها: لترجيح هذا القول ظهر لي الآن وهو تعليل الحكم بالنهي عن المضارّة بالولد، وإنّما تضارّ بذلك المطلّقة دون التي في العصمة، فبيّن إنّ للمطلّقة الحقّ في إرضاع ولدها كسائر الوالدات، وأنّه ليس للمطلّق منعها منه، وهو عرضة لهذا المنع.

القول الثاني: إنّه خاصّ بالوالدات مع بقاء الزوجية، قال الواحدي في هذا القول هو الأولى، لأنّ المطلّقة لا تستحقّ الكسوة وإنّما تستحق الأجرة، وأقول: إنّ هذا الترجيح مرجوح لا يلتفت إليه، لأنّه مبني على الاحتجاج بقول الفقهاء على القرآن وهذا القول أضعف الأقوال.

القول الثالث: إنّه عامّ في جميع المطلّقات، وقال كثيرون إنّه أولى عملا بظاهر اللفظ، فهو عام لا دليل على تخصيصه، ويكون الرزق والكسوة - أي النفقة - خاصّاً ببعض أفراد العامّ، وهنّ الوالدات المطلّقات. وقال بعضهم: إنّ استئجار الأمّ للإرضاع صحيح، وعبّر عن الأجرة بالرزق والكسوة، وقيل إنّه ليس في الآية ما يدلّ على إنّ الرزق والكسوة لأجل الرضاع، وأنت ترى إنّ هذا خلاف المتبادر من الآية، ونحن لا نستفيد من جعل الآية عامّة، زيادة عمّا نستفيد بجعلها خاصّة، إلاّ أنّه يجب على غير المطلّقة من إرضاع الولد مطلّقاً أو بشرط، ما يجب على المطلّقة بالنصّ، وأنّه من حقوقها أيضاً، وهذا يؤخذ من الآية إذا حملت على التخصيص بالطريق الأولى، على إنّ القائلين بالعموم لم يقولوا بهذا الوجوب مطلقاً كما يأتي، ولا أذكر عن الأستاذ الإمام ترجيحاً أو إختياراً في هذه المسألة.

قوله تعالى: { وَٱلْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ } أمر جاء بصيغة الخبر للمبالغة في تقريره على نحو ما تقدّم في قوله:وَٱلْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ } [البقرة: 228] وزعم بعضهم إنّه خبر على بابه، أي إنّ شأن الوالدات ذلك، وأنت ترى إنّه لا فائدة في الإخبار عن الواقع المعلوم للناس في مقام بيان الأحكام، وكأنّ صاحب هذا القول أراد أن يقوّي به قول الفقهاء الذين يرون إنّه لا يجب على الوالدة إرضاع ولدها، إلاّ إذا تعيّنت مرضعاً، بأن كان لا يقبل غير ثديها كما يعهد من بعض الأطفال، أو كان الوالد عاجزاً عن استئجار ظئر ترضعه، أو قدر ولم يجد الظئر، على إنّ هؤلاء الفقهاء لم يروا جعل الخبر بمعنى الأمر مانعاً من حكمهم هذا، فقد حملوه على الندب في حال الإختيار، قالوا: لأنّ لبن الأمّ أنفع للولد من لبن الظئر، وخاصّة إذا لم يكن ولد الظئر في سنّه، والظاهر أنّ الأمر للوجوب مطلقاً، فالأصل إنّه يجب على الأمّ إرضاع ولدها واختاره الأستاذ الإمام، يعني إن لم يكن هناك عذر مانع من مرض ونحوه، ولا يمنع الوجوب جواز إستنابة الظئر عنها مع أمن الضرر؛ لأنّ هذا الوجوب للمصلحة لا للتعبّد، فهو كالنفقة على القريب بشرطها، فإذا اتّفق الوالدان على استئجار ظئر ورأيا أنّها تقوم مقام الوالدة فلا بأس كما في مسألة الفصال الآتية.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8