الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَٰنٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا ٱفْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ }

كان للعرب في الجاهلية طلاق ومراجعة في العدّة، ولم يكن للطلاق حدّ ولا عدّة فإن كان لمغاضبة عارضة، عاد الزوج فراجع واستقامت عشرته، وإن كان لمضارّة المرأة راجع قبل انقضاء العدّة واستأنف طلاقاً، ثمّ يعود إلى ذلك المرّة بعد المرّة أو يفيء ويسكن غضبه، فكانت المرأة ألعوبة بيد الرجل يضارّها بالطلاق ما شاء أن يضارّها، فكان ذلك ممّا أصلحه الإسلام من أمور الإجتماع. وكان سبب نزول الآية ما أخرجه الترمذي والحاكم وغيرهما عن عائشة، وأورده السيوطي في أسباب النزول قالت: كان الرجل يطلّق امرأته ما شاء أن يطلّقها وهي امرأته إذا ارتجعها وهي في العدّة، وإن طلّقها مائة مرّة وأكثر، حتّى قال رجل لامرأته والله لا أطلّقك فتبيني، ولا آويك أبداً، قالت وكيف ذلك؟ قال أطلّقك فكلّما همّت عدّتك أن تنقضي راجعتك، فذهبت المرأة فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم فسكت حتّى نزل القرآن: { ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَٰنٍ }.

قال الأستاذ الإمام (رحمه الله تعالى) ما مثاله بإيضاح: قد ذكر في الآية السابقة الطلاق على الطلاق وذكر العدّة، والطلاق هنا هو الطلاق هناك. وهو عبارة عن مفارقة المرأة المدخول بها، بحلّ الرجل عقدة الزوجية التي تربطهما معاً، واللفظ دلّ على هذا المعنى. فهذا بيان لأصل الشرع في الطلاق جاء على صيغة الخبر لتقريره وتوكيده كقوله:وَٱلْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ } [البقرة: 228] أي إنّ حدّ الله الذي حدّه للطلاق، ولم يخرج به العصمة من أيدي الرجال هو مرّتان، أي طلقتان، وعبّر بالمرتين ليفيد إنّ الطلقتين تكون كلّ منهما مرّة تحلّ بها العصمة ثمّ تبرم، لا أنّهما يكونان بلفظ واحد، ولهذا روي عن ابن عبّاس أنّه جعل كلمة (طلّقت ثلاثاً) بمثابة قرأت الفاتحة ثلاثاً، فإن كان صادقاً فالطلاق صحيح، وإلاّ فهو لغو من القول. وقال: إنّ إنشاء الطلاق ثلاثاً بالقول، ليس في قدرة الرجل إيقاعه مرّة واحدة، ذلك إنّ الأمور العملية لا تتكرّر بتكرّر القول المعبّر عنها، بل ولا القولية أيضاً. فمن فسخ العقد مرّة، وعبر عنها بقوله ثلاثاً فهو كاذب. ولو صحّ ذلك لصحّ أن يقال الواحد ثلاثة والثلاثة واحد، ومن سفه نفسه وجاء بهذا، فقد خرج عن السنّة واستحقّ التأديب. فقد روى النسائي من حديث محمود بن لبيد قال: أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلّق امرأته ثلاث تطليقات جميعاً، فقام غضبان ثمّ قال " أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟ " حتّى قام رجل فقال يا رسول الله ألا أقتله! قال ابن كثير إسناده جيّد وقال الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام رواته موثّقون. وقد صرّح جماهير العلماء ومنهم الحنفية بأنّ الطلاق الشرعي هو ما كان مرّة بعد مرّة، وأن جمع الثنتين أو الثلاث بدعة، وإنّه حرام.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8