الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ يَٰـأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } * { ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَٰشاً وَٱلسَّمَاءَ بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }

في الناس المنادون هنا وجهان: أحدهما: إنّهم الذين يقولون: آمنّا بالله وباليوم الآخر، وما هم بمؤمنين ذلك الإيمان الذي يملك القلب ويصرِّف النفس في الأعمال، وهو المقبول عند الله تعالى. وإنّما هم آخذون بتقاليد ظاهريّة ليس لها ذلك الأثر الصالح في أخلاقهم وأعمالهم. فهم يخادعون الله تعالى بالتلبّس ببعض صور العبادات والأقوال و " إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم " والكلام على هذا لا يزال في الصنف الرابع من أصناف البشر المخاطبين بالقرآن كما تقدّم، فلا حاجة إلى بيان وجه الإتّصال بين الآيات.

الوجه الثاني: وهو الراجح: إنّ الخطاب عامّ للناس كافّة، ووجه الإتّصال بين الآيات على هذا، أنّه لمّا بيّن تعالى في أصناف الناس هذا الصنف - الذي احتقر أفراده نعم الله تعالى عليهم، واستعظموها وأكبروها على مَنْ قبلهم، فحرموا أنفسهم من أجلّ المزايا الإنسانيّة، وأجلّوا سلفهم حتّى رفعوهم إلى مرتبة الربوبيّة - خاطب الناس عامّةً بأن يعبدوه ملاحظين معنى الربوبيّة والخالقيّة التي تشملهم ومن قبلهم من السلف، فتنظّمهم جميعاً في سلك العبوديّة للخالق تعالى شأنه، ولا يكون كذلك الصنف الخاسر الكفور بنعم المشاعر والعقل وهداية الدين. إذ لم يستعملوا عقولهم في فهم ما أُنزل عليهم. بل اكتفوا بتقليد بعض رؤسائهم وعلمائهم، زاعمين أنّه لا يقوى على فهم كتاب الله تعالى غيرهم، كأنّ الله تعالى أنزل كتبه وخاطب بها نفراً معدودين في وقت محدود، ولم يجعله هداية عامّة للأمّة، وإنّما ألزم سائر الناس في سائر الأوقات الإكتفاء بإتّباع أولئك الرؤساء وإتّباعهم، وإتّباع أتباعهم، وهلمّ جرّا، ثمّ تركوا أتباعهم اتّكالاً على شفاعتهم، واكتفاءً بالإنتساب إليهم، وزعماً: إنّ الله أعطاهم ما لا يعطي مثله لأحد سواهم، وإن عملوا مثل عملهم. تعالى الله عن الظلم والمحاباة وهو ذو الرحمة التي لا تنتهي وذو الفضل العظيم.

هذا النداء الإلهيّ المشعر بأنّ نسبة الناس الأوّلين إلى الله تعالى كنسبة الآخرين واحدة: هو الخالق وهم المخلوقون: وهو المستحقّ للعبادة وهم المأمورون بها أجمعون - حجّة علينا وعلى جميع مَنْ استنّ بسنّة ذلك الصنف من قبلنا. قال شيخنا: وأخصّ طلاّب علوم الدين بالذكر فينبغي للطالب أن يوجه نفسه إلى فهم القرآن، ويحملها على الاهتداء به، فإذا هو فعل ذلك تظهر عليه آداب الإسلام التي أشار إليها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: " أدّبني ربّي فأحسن تأديبي " وإنّما كان أدّبه القرآن. ومَنْ اشتغل بهذا حقّ الإشتغال وصل إلى معرفة أمراض المسلمين الحاضرة، ومنابع البدع التي فشت فيهم، ومثارات الفتن التي فرّقتهم، ويعرف علاج ذلك. وأنّ مَنْ ذاق حلاوة القرآن لا ينظر في كتاب ولا يتلقّى علماً، إلاّ ما يفتح له باب الفهم في القرآن، أو ما يفتح له بابه القرآن فيجده مرآته، وما عدا ذلك مبعد عنه، والبعد عن القرآن هو عين البعد عن الله تعالى وذلك هو الضلال البعيد.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8