الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ ٱلْبَأْسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ أَلاۤ إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ }

الآية متّصلة بما قبلها فقد أمر الله تعالى بالوفاق والسلام، وبين سبب التنازع والخصام، وأرشد إلى ما فطر عليه البشر من حاجة بعضهم إلى التعاون مع بعض عندما كثروا واجتمعوا وكثرت مطالبهم وتعدّدت رغائبهم، ومن إفضاء ذلك إلى التنازع والتعادي، ومن حاجتهم إلى نظام جامع وشرع يحدّد الحقوق ويهدي القلوب، لا مجال فيه للنزاع والاختلاف؛ لوجوب أخذه بالتسليم لما معه، أو لما فيه من البيّنات على أنّه من عند الله، وذكر إحسان الله تعالى إليهم إذ بعث فيهم الأنبياء وأنزل عليهم الكتاب ليحكم في الاختلاف. ثمّ ذكر اختلاف الذين أوتوا الكتاب في الكتاب نفسه وتحويلهم الدواء داء، واتّخاذهم الرابطة الجامعة آلة مفرّقة، ثمّ هداية الله تعالى أهل الإيمان الصحيح لما وقع الاختلاف فيه من الحقّ برجوعهم إلى الأصل وهو الكتاب، وتحكيمه في كلّ خلاف، وقبول حكمه في كلّ نزاع، والإعتماد في فهمه على ما يؤخذ من جملته، وما علم علماً صحيحاً من سنّة من جاء به، ومن صدّقوه واتّبعوه قبل الخلاف.

بيّن الله تعالى هذه الأطوار في البشر، فأنار لنا الطريق التي اهتدت فيها الأمم بعد ضلال، ثمّ ضلّت بعد هداية، لنكون على بصيرة فيما نعمله للخروج من الخلاف بعد وقوعه، ولكن الذي يحاول الخروج من الخلاف يكون عرضة لبغي المختلفين وإيذائهم، وهكذا أهل الضلالة يبغون على أهل الهداية وإن كان هؤلاء يريدون خيرهم، سواء كان ما يحاولون هدايتهم فيه هو الضلال في طريق الفطرة والعقل، أم الضلال في تأويل الكتاب والتصرّف في الشرع. ولذلك قفّى على ذلك البيان كلّه بتمثيل حال الأوّلين الذين سلكوا سبيل الهداية في أنفسهم، وتصدّوا لهداية الناس وإرشادهم إلى السلم والوفاق فقال:

{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم } إلخ. الخطاب موجّه إلى الذين هداهم الله تعالى إلى السلم والخروج من ظلمة الخلاف، إلى نور الكتاب الذي أنزل لإزالته في زمن النزول وفي كل زمن يأتي بعده. وتوجيهه أوّلا وبالذات إلى أهل الصدر الأول من المسلمين، الذين كانوا خير أمّة أخرجت للناس أكبر عبرة وموعظة لمن يأتي بعدهم، ويحسبون أنهم بمجرّد الإنتماء إلى الإسلام يكونون أهلا لدخول الجنّة، جاهلين سنّة الله تعالى في أهل الهدى منذ خلقهم، وهي تحمّل الشدائد والمصائب والضرر والإيذاء في طريق الحقّ، وهداية الخلق، وعجيب من أمّة ينطق كتابها بالآيات البينات على أنّ سنّة الله في خلقه واحدة لا تحويل لها ولا تبديل، ويحثّها دائماً على الاعتبار بها والسير في الأرض لمعرفة آثارها في الأمم البائدة والأمم الحاضرة، ثمّ هم يحوّلون هذه السنّة عنهم، ويفشو فيهم الإنكار على من يعظهم، بما حكى الله تعالى عن حال تلك الأمم التي كفرت بنعمة الله تعالى عليها بالسلم والهداية، قائلين إنّه يقيس المسلمين على الكافرين!!

" أم " هاهنا هي الواقعة في طريق الاستفهام، وهي تشعر بمحذوف دلّ عليه الكلام في وصف الذين خلوا من قبلنا وما نالوا من البأساء والضرّاء، كأنّه يقول: قد خلت من قبلكم أمم أوتوا الكتاب ودعوا إلى الحقّ، فآذاهم الناس في ذلك فصبروا وثبتوا.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7