الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ سَلْ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } * { زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَٱللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }

تقدّم أنّ في قوله تعالى:يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱدْخُلُواْ فِي ٱلسِّلْمِ كَآفَّةً } [البقرة: 208] وجهين: أحدهما إنّ المراد بالذين آمنوا أهل الكتاب، وثانيهما إنّ المخاطب بها المؤمنون من المسلمين، وقوله عزّ وجل: { سَلْ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ } ظاهر على كلا الوجهين، فهو على الأول بيان لحقيقة حالهم، وأنّ الآيات والنذر لا ترجعهم عن ضلالهم، فإذا استمرّوا على الجحود والخصام، وأعرضوا عن الدعوة إلى الدخول في السلام، فليس ذلك بدعاً منهم، ولا دليلا على إنّ الإسلام غير بيّن لهم، فكم جاءهم أنبياؤهم بالآيات البيّنات، وكم بلاهم الله تعالى بالحسنات والسيّئات، ولم يغن ذلك عنهم، ولا صدّهم عن خلافهم، وشقاقهم، بل بدّل الذين كفروا منهم قولاً غير الذي قيل لهم، وبدّلوا نعمة الله كفراً. { وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ } عليه بالآيات الدالّة على الحقّ، والوحدة الداعية إلى الشكر { مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ } بالبيان، وأبرهت بالبرهان، بجعلها مثاراً للتفرّق والاختلاف، وجعل الأمّة الواحدة شيعاً وأحزاباً ومذاهب وفرقاً بسوء التأويل وعصبيات الرياسة والسياسة { فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } لمن تنكّب سنّته، وخالف شرعته، وهؤلاء المبدّلون منهم، فالعقاب الشديد نازل لا محالة بهم، ولم يقل فإنّ الله يعاقبهم؛ ليشعرنا بأنّ هذا من سننه العامّة، فحذّرنا أن نكون من المخالفين المبدّلين، توهّماً أنّ العقاب خاصّ ببعض الغابرين، كما يلغو كثير من الجاهلين، فأنت ترى أنّ هذه الجملة في معنى قوله:فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [البقرة: 209] والتقييد بمجيء البيّنات والآيات، دليل على أنّ من لم تبلغه الدعوة الصحيحة بالبيّنة والدليل، لا يخاطب بهذا الوعيد، فحسبه حرمانه من هداية الأنبياء عليهم السلام، فكيف يطالب مع ذلك بما لا يعلم، ويجعل مع من عاند الحقّ من بعد ظهوره له في قرن.

وفي هذه من الهداية أيضاً بيان أمر عظيم يغفل عنه العلماء والأذكياء، وهو أنّ الآيات والبيّنات إنّما تفيد النفوس الخيّرة المستعدّة لقبول الحقّ، المتوجّهة إلى طلبه، وأمّا النفوس الخبيثة التي يفضحها الحقّ ويظهر باطلها الذي تحبّ ستره، والإسترسال فيما هي فيه من اللذّة الحسّية والجاه الباطل، فإنّ الآيات والبيّنات لا تزيدها، إلاّ مماراة وجدلا في القول، وجحوداً وعناداً بالفعل. هذه سنّة الله تعالى في البشر عامّة، لا في بني إسرائيل خاصّة - كذلك كان وكذلك يكون وسيكون وسوف يكون إلى ما شاء الله.

وأمّا تفسير الآية على الوجه الآخر المختار في المخاطبين بالدخول في السلم، فهو أنّها هادية إلى الاعتبار بسنّة الله تعالى في الأمم الماضية على ما بيّنا آنفاً، كأنّه يقول يا أيّها المؤمنون بمحمّد، صلى الله عليه وسلم، عليكم بالدخول في السلم والإتّفاق، والاعتصام بالإسلام في جملته، لا تفرّقوه ولا تتفرّقوا فيه وتكونوا شيعاً؛ كيلا يصيبكم ما أصاب أولئك الذين تفرّقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البيّنات من قبلكم، وهؤلاء بنو إسرائيل بين أيديكم وحالهم لا تخفى عليكم فسلوهم حالهم، وإستنطقوا آثارهم، واقرؤا تاريخهم، تروا أنّهم أوتوا نحواً ممّا أوتيتم من البيّنات، وأمروا كما أمرتم بالإتّحاد والإجتماع، فتفرّقوا إلى مذاهب وشيع، وزلّوا عن صراط الله، فتفرّقت بهم السبل، فأخذهم الله بعزّته ونفّذ فيهم حكم سنّته، وزال سلطانهم، ولفظتهم أوطانهم، وضربت عليهم الذلّة والمسكنة، ومزّقوا في الأرض كلّ ممزّق.

السابقالتالي
2 3 4 5 6