الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱدْخُلُواْ فِي ٱلسِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ ٱلشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } * { فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } * { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ ٱللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ ٱلْغَمَامِ وَٱلْمَلاۤئِكَةُ وَقُضِيَ ٱلأَمْرُ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ }

بعد ما بيّن عزّ وجلّ اختلاف الناس في الصلاح والفساد والإصلاح والإفساد أراد أن يهدينا إلى ما يجمع البشر كافّة على الصلاح والسلام والوفاق، الذي قرّره الإسلام، وهو ما يقتضيه الإيمان بالله واليوم الآخر، وجعل هذه الهداية بصيغة الأمر وشرف أهل الإيمان به فقال: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱدْخُلُواْ فِي ٱلسِّلْمِ كَآفَّةً } إلخ. السلم: المسالمة والإنقياد والتسليم، فيطلق على الصلح والسلام، وعلى دين الإسلام. قرأ ابن كثير ونافع والكسائي السلم بفتح السين، والباقون بكسرها، وهما لغتان. وقد فسّره بعض المفسّرين بالصلح، وبعضهم بالإسلام وعليه الجلال، وقال في تفسير " كافّة " حال من السلم، أي في جميع شرائعه. وأقول إنّ أساسها الإستسلام لأمر الله والإخلاص له، ومن أصولها الوفاق والمسالمة بين الناس وترك الحروب والقتال بين المهتدين به. واللفظ يشمل جميع معانيه التي يقتضيها المقام، والأمر بالدخول فيه، يشعر بأنّه حصن منيع للداخلين في كنفه، وهو للكاملين منهم أمر بالثبات والدوام، كقوله تعالى:يَٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ ٱتَّقِ ٱللَّهَ } [الأحزاب: 1] ولمن دونهم أمر بالتمكّن منه، وتحرّي الكمال فيه، وعلى القول بأنّ الخطاب فيه لأهل الكتاب، أو كلّ من يؤمن بالله فالدخول على حقيقته. يقول لهم: إذا لم تدخلوا في دين الإسلام - الذي أكمله لخلقه كافّة ببعثة خاتم النبيين - فلا ينفعكم إيمانكم به، مع بقائكم على تعاديكم وتفرّقكم، ودين الله جامع لا تفرّق فيه. وهاك ما كتبته بعد حضور درس تفسير شيخنا للآية.

هذه كلمة عظيمة، وقاعدة لو بنى جميع علماء الدين مذاهبهم عليها، لما تفاقم أمر الخلاف في الأمّة، ذلك أنّها تفيد وجوب أخذ الإسلام بجملته، بأن ننظر في جميع ما جاء به الشارع في كلّ مسألة من نصّ قولي وسنّة متّبعة، ونفهم المراد من ذلك كلّه ونعمل به، لا أن يأخذ كلّ واحد بكلمة أو سنّة ويجعلها حجّة على الآخر، وإن أدّت إلى ترك ما يخالفها من النصوص والسنن، وحملها على النسخ أو المسخ بالتأويل، أو تحكيم الاحتمال بلا حجّة ولا دليل، ولو أنّك دعوت العلماء إلى العمل بالآية على هذا الوجه - الذي عرفوه ولم ينكره على قائليه أحد منهم، وإن رجّح بعضهم في التفسير غيره عليه - لولّوا منك فراراً، وأعرضوا عنك إستكباراً، وقالوا مكر مكراً كبّاراً، إذ دعا إلى ترك المذاهب، وحاول إقامة المسلمين على منهج واحد.

ومن آيات العبرة في هذا المقام، أنّنا نجد في كلام كثير من علمائنا هدى ونوراً لو اتّبعته الأمّة في أزمنتهم لاستقامت على الطريقة، ووصلت إلى الحقيقة، بعد الخروج من مضيق الخلاف والشقاق، إلى بحبوحة الوحدة والإتّفاق، والسبب في بقاء الغلب لسلطان الخلاف والنزاع، فشو الجهل وتعصّب أهل الجاه من العلماء لمذاهبهم التي إليها ينتسبون، وبجاهها يعيشون ويكرمون، وتأييد الأمراء والسلاطين لهم إستعانة بهم على إخضاع العامّة، وقطع طريق الاستقلال العقلي والنفسي على الأمّة؛ لأنّ هذا أعون لهم على الإستبداد، وأشدّ تمكيناً لهم ممّا يهوون من الفساد والإفساد؛ إذ اتّفاق كلمة علماء الأمّة وإجتماعها على أنّ الحقّ كذا بدليل كذا، ملزم للحاكم بإتّباعهم فيه؛ لأنّ الخواص إذا اتّحدوا تبعهم العوام، وهذه هي الوسيلة الفردة لإبطال إستبداد الحكّام، وهذا التفسير مؤيّد بالنعي على الذين جعلوا القرآن عضين، والإنكار على الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، أي يعملون ببعضه على إنّه دين، ويتركون بعضاً بتأويل أو غير تأويل، كشأن من لم يصدّق بأنّه من الله.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9