الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا وَيُشْهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ ٱلْخِصَامِ } * { وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي ٱلأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ ٱلْحَرْثَ وَٱلنَّسْلَ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلفَسَادَ } * { وَإِذَا قِيلَ لَهُ ٱتَّقِ ٱللَّهَ أَخَذَتْهُ ٱلْعِزَّةُ بِٱلإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ } * { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ رَؤُوفٌ بِٱلْعِبَادِ }

أرشدتنا آيات المناسك السابقة إلى أنّ المراد منها ومن كلّ العبادات هو تقوى الله تعالى بإصلاح القلوب، وإنارة الأرواح بنور ذكر الله تعالى وإستشعار عظمته وفضله، وإلى إنّ طلب الدنيا من الوجوه الحسنة لا ينافي التقوى بل يعين عليها، بل هو ممّا يهدي إليه الدين، خلافاً لأهل الملل السابقة الذين ذهبوا إلى أنّ تعذيب الأجساد وحرمانها من طيّبات الدنيا هو أصل الدين وأساسه، وإلى أنّ من يطلب الدنيا من كلّ وجه ويجعل لذّاتها أكبر همّه ليس له في الآخرة من خلاق؛ لأنّه مخلّد إلى حضيض البهيمية، لم تستنر روحه بنور الإيمان، ولم يرتق عقله في معارج العرفان. ولمّا كان محلّ التقوى ومنزلها القلوب دون الألسنة، وكان الشاهد والدليل على ما في القلوب، الأعمال، دون مجرّد الأقوال؛ ذكر في هذه الآيات إنّ الناس في دلالة أعمالهم على حقائق أحوالهم ومكنونات قلوبهم قسمان، فكانت هذه متّصلة بتلك في بيان مقصد القرآن العزيز، وهو إصلاح القلوب، واختلاف أحوال الناس فيها، وما ينبغي أن يعلموه منها، ولذلك عطفها عليها فقال:

{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا } يقال أعجبه الشيء إذا راقه واستحسنه ورآه عجباً أي طريفاً غير مبتذل، والخطاب عامّ، وفي قوله: { فِي ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا } وجهان: أحدهما: أنّ من الناس فريقاً يعجبك قوله وأنت في هذه الحياة؛ لأنّك تأخذ بالظواهر، وهو منافق اللسان يظهر خلاف ما يضمر، ويقول ما لا يفعل، فهو يعتمد على خلابة لسانه، في غشّ معاشريه وأقرانه، يوهمهم إنّه مؤمن صادق، نصير للحقّ والفضيلة، خاذل للباطل والرذيلة، متّق لله في السرّ والعلن، مجتنب للفواحش ما ظهر منها وما بطن، لا يريد للناس إلاّ الخير، ولا يسعى إلاّ في سبيل النفع { وَيُشْهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ } أي يحلف بالله أنّ ما في قلبه موافق لما يقول ويدّعي. وفي معنى الحلف أن يقول الإنسان: الله يعلم أو يشهد بأنّي أحبّ كذا وأُريد كذا. قال تعالى:قَالُواْ رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ } [يس: 16] وهو تأكيد معروف في كلام العرب:
أليس الله يعلم أنّ قلبي   يحبّك أيّها البرق اليماني
وقال العلماء إنّ هذا آكد من اليمين، وعن بعض الفقهاء أنّ من قاله كاذباً يكون مرتدّاً؛ لأنّه نسب الجهل إلى الله تعالى. وأقول إنّ أقلّ ما يدلّ عليه عدم المبالاة بالدين ولو لم يقصد صاحبه نسبة الجهل إلى الله عزّ وجلّ فهو قول لا يصدر إلا عن المنافقين الذينيُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا } [البقرة: 9] فإنّ أحدهم ليبالغ في الخلابة والتودّد إلى الناس بالقول { وَهُوَ أَلَدُّ ٱلْخِصَامِ } أي وهو في نفسه أشدّ الناس مخاصمة وعداوة لمن يتودّد إليهم، أو هو أشدّ خصمائهم، على إنّ الخصام جمع خصم ككعاب جمع كعب وهو المختار، واللدد: شدّة الخصومة، ولد (كتعب) الرجل لازم ولد خصمه (كنصر) شدّد خصومته ولادّه للمشاركة.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9