الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } * { وِمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ } * { أُولَـٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } * { وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ فِيۤ أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ ٱتَّقَىٰ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوآ أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }

{ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً } كان للعرب في الجاهلية مجامع في الموسم يفاخرون فيها بآبائهم ويذكرون أنسابهم وفعالهم، أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس قال: كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم يقول الرجل منهم: كان أبي يطعم ويحمل الحمالات ويحمل الديّات، ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم، فأنزل الله هذه الآية. ولابن جرير عن مجاهد: كانوا إذا قضوا مناسكهم وقفوا عند الجمرة وذكروا آباءهم إلخ وروي أنهم كانوا يقفون بمنى بين المسجد والجبل يتفاخرون ويتعاكظون ويتناشدون، فأمرهم الله تعالى بأن يذكروا الله تعالى بعد قضاء المناسك - وهي أعمال الحجّ - كما كانوا يذكرون آباءهم في الجاهلية، أو أشدّ من ذكرهم إيّاهم. وقد كان في حجّة الوداع أن خطب النبي في اليوم الثاني من أيّام التشريق فأرشدهم إلى ترك تلك المفاخرات.

روى أحمد من حديث أبي نضرة قال: حدّثني من سمع خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في أوسط أيّام التشريق فقال: " يا أيها الناس إنّ ربّكم واحد، وإنّ أبّاكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلاّ بالتقوى. أبلّغت؟ " قالوا: بلّغ رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقوله تعالى: { أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً } معناه ظاهر، وهو بل اذكروه أشدّ من ذكركم آباءكم، وفيه من الإيجاز ما ترى حسنه. قال الأستاذ الإمام: وقد تعسّف في إعرابه الذين حكّموا النحو الذي وضعوه في القرآن، ويعجبني قول بعض الأئمّة، وأظنّ إنّه أبو بكر بن العربي: من العجيب إنّ النحويين إذا ظفر أحدهم ببيت شعر لأحد أجلاف الأعراب يطير فرحاً به ويجعله قاعدة، ثمّ يشكل عليه إعراب آية من القرآن فلا يتّخذها قاعدة، بل يتكلّف في إرجاعها إلى كلام أولئك الأجلاف وتصحيحها به، كأنّ كلامهم هو الأصل الثابت، ويعجبني أيضاً ما قاله أبو البقاء، وهو إنّ للقرآن إيجازاً وإختصاراً في بعض المواضع المفهومة من المقام، وهو إنّ المعنى هنا أو كونوا أشدّ ذكراً، ومثل هذا شائع في اللغة، وقال الأستاذ هنا كلمته التي يكرّرها في مثل هذا المقام وهي: إنّه كان يجب أن يكون القرآن مبدأ إصلاح في اللغة العربية، وقد ذكرناها من قبل.

ثمّ بيّن تعالى إنّ الذين يذكرونه فيدعونه على قسمين: { فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } الخلاق: النصيب والحظّ. ذكر تعالى إنّ هذا الفريق يطلب حظّ الدنيا مطلقاً، ولم يقل إنّه يطلب حسنة فيها؛ لأنّ من كانت الدنيا كلّ همّه لا يبالي أكانت شهواته وحظوظه حسنة أم سيّئة، فهو يطلب الدنيا من كلّ باب، ويسلك إليها كلّ طريق، لا يميّز بين نافع لغيره ولا ضارّ، فباستيلاء حبّ الدنيا عليه، لم يكن للآخرة وما أعدّه الله فيها للمتّقين من الرضوان موضع من نفسه يرجوه ويدعو الله فيه، كما إنّه لا يخاف ما توعّد الله به المجرمين فيها، فيلجأ إليه تعالى بأن يقيه شرّه، فحرمان هذا الفريق من خلاق الآخرة هو أثر كسبه وسوء إختياره وتفضيله حظوظ الدنيا الفانية على سعادة الآخرة الباقية؛ لأنّه يعمل للأولى كلّ ما يستطيع من أسباب الحلال والحرام، حتى إنّه لا يسأل ربّه إلاّ المزيد من حظوظها وشهواتها، وقد ينالها كثير من الناس بدون همّ كبير في العمل لها، ولا يعمل للآخرة، وقد اشترط لسعادتها خير العمل، فقال تعالى:

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7