الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَٰتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ وٱللَّهُ مُحِيطٌ بِٱلْكَٰفِرِينَ } * { يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَٰرَهُمْ كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَٰرِهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

هذا هو مثل الفريق الثاني من هذا الصنف من الناس، الذي كان أفراده ولا يزالون فتنةً للبشر، ومرضاً في الأمم، وحجّة على الدين؛ لأنّهم بغرورهم بتقاليدهم التي اكتفوا بها من دينهم الموروث، يعبثون بعقولهم، ويلهون بخيالاتهم؛ ويجنون على مشاعرهم ومداركهم فيضعفونها، ويصارعون الفطرة الإلهية فيصرعونها، حتّى يكون بعضهم كالجماداتصُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } [البقرة: 18] كما تقدّم في المثل الأوّل. ويألف البعض الآخر الظلمة بطول التقليد، ويكون أفراده في نور البرهان كالخفافيش في نور الشمس، ولكنّهم أمثل من الفريق الذي ضرب له المثل الأوّل؛ لأنّ فيهم بقيّة من الرجاء ورمقاً من الحياة، يوجّههم إلى الاقتباس من نور الهداية كلّما أضاءت لهم بروقها، والمشي في الجادّة كلّما استبانوا طريقها، ولكن تحول دون ذلك ظلمات التقاليد العارضة، وتقف في السبيل عقبات البدع المعارضة، وقد يعدم لاستماع قوارع الآيات التي تنذرهم بما حرّفوا، وصوادع الحجج التي تبيّن لهم كيف انحرفوا، ولا يصدّهم عنها إلاّ أنّها تزعجهم إلى ترك ما صنّفوا وألّفوا، وهجر ما أحبّوا وألفوا، وعدم المبالاة بسنّة الآباء، وقلّة الإحتفال بعظمة الرؤساء.

فهم يتراوحون بين الخوف والرجاء، مذبذبين بين أهل الجحود وأهل اليقينلاَ إِلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ وَلاَ إِلَى هَـٰؤُلاۤءِ } [النساء: 143]، ولا ينقطع منهم الأمل، حتّى ينقطع بهم الأجل.

ألا تراهم عندما يقرع أسماعهم من كتاب ربّهم ما يبيّن فساد سيرتهم، والتواء طريقتهم، كقوله تعالى في النعي على أمثالهم، وحكاية ما لم يرضَه من أقوالهم:بَلْ قَالُوۤاْ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَارِهِم مُّهْتَدُونَ } [الزخرف: 22] إلخ. وقوله في بيان ندمهم على التقليد، عندما يحلّ بهم الوعيد:رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا ٱلسَّبِيلاْ } [الأحزاب: 67] يأخذهم الزلزال، ويتولاّهم الإضطراب والقلق، وتنشقّ لهم الظلمة عن فلق، ويلمع في نفوسهم نور الهداية الفطريّة، فيمشون فيه خطوات، ثمّ تحيط بهم الظلمات، وينقطع بهم الطريق كما ألمعنا آنفا. وأسباب غلبة الظلمات على النور هي: موافقة ما عليه الجمهور، والإخلاد إلى الهوى، وتفضيل عرض هذا الأدنى، وانتظار المغفرة ولو بما تأوّلوه في معنى الشفاعة، وتمنّي الربح من غير بضاعةيَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـٰذَا ٱلأَدْنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَٰقُ ٱلْكِتَٰبِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ } [الأعراف: 169] بلى هو عندهم مدروس بجدليّات النحو والكلام، ولكنّه دارس الصوى والأعلام؛ المنصوبة لهداية القلوب والأحلام. ومقروء بالتجويد والأنغام؛ ولكنّه متروك الحكم والأحكام؛ يقرؤنه لكسب الحطام؛ لا لمعرفة الحلال والحرام، ولا يتلونه لإصلاح القلب واللسان، بتزكية النفس وتغذية الإيمان. ويكتبونه لشفاء الأبدان من الأسقام، لا لشفاء ما في الصدور من الأوهام والآثام، ولو كان له أنصار يدعون إليه؛ وهداة يعتصمون به ويعوّلون عليه؛ لتبدّدت الظلمات أمام الأنوار، ومحت آية الليل آية النهار.

السابقالتالي
2 3 4 5 6