الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَٰتٍ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ عِندَ ٱلْمَشْعَرِ ٱلْحَرَامِ وَٱذْكُرُوهُ كَمَا هَدَٰكُمْ وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ ٱلضَّآلِّينَ } * { ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ وَٱسْتَغْفِرُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

قوله عزّ وجلّ: { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } متّصل بما قبله، واقع موقع الاستدراك والإحتراس ممّا عساه يسبق إلى الفهم من الأمر بالتزوّد من التقوى وعمل البرّ والخير وهو خير الزاد، ثمّ من مخاطبة أولي الألباب بالأمر بالتقوى تعريضاً بأنّ غير المتّقي لا لبّ له ولا عقل، وهو أن أيّام الحجّ لا يباح فيها غير أعمال البرّ والخير، فيحرم فيها ما كانت عليه العرب في الجاهلية من التجارة والكسب في الموسم، كما يحرم الرفث والفسوق والجدال الذي هو من لوازم التجارة غالباً، والترفّه بزينة اللباس المخيط والحلق والإفضاء إلى النساء، فأزال هذا الوهم من الفهم وعلّمنا إنّ الكسب في أيّام الحجّ - مع ملاحظة أنّه فضل من الله - غير محظور؛ لأنّه لا ينافي الإخلاص له في هذه العبادة، وإنّما الذي ينافي الإخلاص هو أن يكون القصد إلى التجارة، بحيث لو لم يرج الكسب لم يسافر لأجل الحجّ، هذا ما عليه الجماهير. وحمل أبو مسلم ذلك على ما بعد الحجّ، ومنع الكسب في أيّامه، ويرد عليه نزول الآية في سياق أحكام الحجّ، ونفي الجناح الذي لا معنى له في غير الحجّ، وما ورد في أسباب نزولها، أخرج البخاري عن ابن عبّاس قال: كانت عكاظ، ومجنة، وذو المجاز، أسواقاً في الجاهلية، فتأثّموا أن يتّجروا في الموسم، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فنزلت. وقرأ ابن عبّاس الآية بزيادة: في موسم الحجّ، وأعتقد إنّه قاله تفسيراً. وأخرج أحمد وابن أبي جرير والحاكم وغيرهم من طرق عن أبي أمامة التيمي قال: قلت لابن عمر: إنّا نكري - أي الرواحل للحجّاج - فهل لنا من حجّ؟ فقال ابن عمر: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألتني عنه فلم يجبه حتّى نزل عليه جبريل بهذه الآية - وذكرها - فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " أنتم حجّاج ". وفي رواية إنّ ابن عمر قال لهم ألستم تلبّون؟ ألستم تطوفون بين الصفا والمروة؟ ألستم ألستم؟ ثمّ ذكر ما تقدّم.

وقال الأستاذ الإمام: كان بعض المشركين وبعض المسلمين في أوّل الإسلام يتأثّمون في أيّام الحجّ من كلّ عملّ، حتّى كانوا يقفلون حوانيتهم، فعلّمهم الله تعالى إنّ الكسب طلب فضل من الله لا جناح فيه مع الإخلاص، وقال: إنّ قوله تعالى: [من ربّكم] يشعر بأنّ إبتغاء الرزق مع ملاحظة أنّه فضل من الله تعالى، نوع من أنواع العبادة، ويروى أنّ سيّدنا عمر قال في هذا المقام لسائل: وهل كنّا نعيش إلاّ بالتجارة؟

أقول: لكن قال بعض العلماء: إنّ نفي الجناح يقتضي إنّ هذه الإباحة رخصة، وأنّ الأولى تركها في أيّام الحجّ، وهذا لا ينافي ما قاله إذا أريد بأيّام الحجّ الأيّام التي تؤدّى فيها المناسك بالفعل، لا كلّ أيّام شوّال وذي القعدة وذي الحجّة أو عشره الأوّل، وذلك إنّ لكلّ وقت عبادة لا تزاحمها فيه عبادة أخرى، كالتلبية للحجّاج، والتكبير في أيّام العيد والتشريق، والتلبية عند الإحرام بالحجّ، كتكبيرة الإحرام في الصلاة، وهو ذكر الحجّ الخاصّ الذي يكرّر في أثنائه إلى إنتهاء الوقوف بعرفة، أو إلى رمي جمرة العقبة يوم النحر، ثم يستحبّ التكبير، وللعلماء خلاف في التحديد.

السابقالتالي
2 3 4