الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ وَأَتِمُّواْ ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ للَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلْعُمْرَةِ إِلَى ٱلْحَجِّ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي ٱلْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ }

اتّصال هذه الآيات بما قبلها جليّ جدّاً، لا سيّما لمن قرأ ما تقدّم من التفسير، فإنّ آيات القتال السابقة نزلت في بيان أحكام الأشهر الحرم والإحرام والمسجد الحرام، فكان الغرض الأوّل من السياق بيان أحكام الحجّ بعد بيان أحكام الصيام؛ لأنّ شهوره بعد شهره الذي هو رمضان. ولمّا أراد النبي صلى الله عليه وسلم العمرة وصدّه المشركون أوّل مرّة بالحديبية، وأراد القضاء في العام القابل، وخاف أصحابه غدر المشركين بهم وإضطرارهم إلى قتالهم إذا هم نقضوا العهد وبدأوا بالقتال، أنزل الله تعالى أحكام القتال بعد ذكر الحج في الجواب عن حكمة اختلاف الأهلّة، ثمّ عاد إلى إتمام أحكام الحج فقال:

{ وَأَتِمُّواْ ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ للَّهِ } فالعطف والتعبير بالإتمام ظاهران في أنّ السياق في الكلام عن الحج، ولذلك لم يقل هنا كتب عليكم الحجّ كما قال في الصيام. وقد كان الحجّ معروفاً في الجاهلية لأنّ فرض على عهد إبراهيم وإسماعيل فأقرّه الإسلام في الجملة، ولكنّه أزال ما أحدثوا فيه من الشرك والمنكرات، وزاد ما زاد فيه من المناسك والعبادات، فالآية ليست في فرضيته وفرضية العمرة، بل هي في واقعة تتعلّق بهما وبقاصديهما، وقد كانوا توجّهوا إلى ذلك قبل نزولها بعام كما تقدّم، فدلّ ذلك على أنّ المشروعية سابقة لنزول هذه الآيات.

والمراد بإتمام الحجّ والعمرة: الإتيان بهما تامّين، ظاهراً بأداء المناسك على وجهها، وباطناً بالإخلاص لله تعالى وحده دون قصد الكسب والتجارة أو الرياء والسمعة فيهما، ولا ينافي الإخلاص البيع والشراء في أثناء الحجّ إذا لم تكن التجارة هي المقصودة في الأصل. وسيأتي التفصيل في حكم التجارة في الحجّ في تفسير:لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } [البقرة: 198].

وأمّا الرياء وحبّ السمعة، فإذا كان هو الباعث على الحجّ، فالحجّ ذنب للمرائي لا طاعة، وإذا عرض الرياء في أثنائه، فقيل إنّه لا يقبل منه شيء لما ورد من أنّ الله تعالى لا يقبل إلاّ ما كان خالصاً لوجهه، والأحاديث في ذلك كثيرة، وإذا كان هذا قد بدأ بالنسك لوجه الله فإنّه لم يتمّه لله كما أمر، وقيل بل يؤاخذ بقدر قصده الطاعة والإخلاص وقدر قصده الرياء، وكلّ شيء عنده تعالى بمقدار:فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } [الزلزلة: 7-8] وتجد القول في هذه المسألة مفصّلا في كتاب الرياء من الجزء الثالث من (الإحياء) فراجعه.

وقد نبّه الأستاذ الإمام في الدرس لحال عامّة الحجّاج في هذا الزمان فقال: إنّ أكثرهم لا يخطر في بالهم مناسك الحجّ وأركانه وواجباته، ولا يقصدونها للجهل بها، وإنّما يقصدون زيارة (أبو إبراهيم) يعني النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من لا يعرف للحجّ معنى سوى هذه الزيارة، وهؤلاء هم الهائمون المغرمون بالحجّ، ومن الناس من يحجّ ليقال له الحاجّ فلان أو ليحتفل بقدومه، وهذا من أخسّ ضروب الرياء، وكثير منهم يقترض بالربا ويحجّ فيريد أن يعبد الله بأنكر المنكرات.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7