الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ ٱلشَّهْرُ ٱلْحَرَامُ بِٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ وَٱلْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ } * { وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ }

لمّا خرج المؤمنون مع النبي صلى الله عليه وسلم للنسك عام الحديبية، صدّهم المشركون وقاتلوهم رمياً بالسهام والحجارة، وكان ذلك في ذي القعدة من الأشهر الحرم سنة ست، ولو قابلهم المسلمون عامئذ بالمثل ولم يرض النبي بالصلح لاحتدم القتال، ولمّا خرجوا في العام الآخر لعمرة القضاء، وكرهوا قتال المشركين - وإن اعتدوا ونكثوا العهد - في الشهر الحرام، بيّن لهم أنّ المحظور في الأشهر الحرم إنّما هو الإعتداء بالقتال دون المدافعة، وأنّ ما عليه المشركون من الإصرار على الفتنة وإيذاء المؤمنين لأنّهم مؤمنون، هو أشدّ قبحاً من القتل لإزالة الضرر العام، وهو منعهم الحق وتأييدهم الشرك. ثمّ بيّن قاعدة عظيمة معقولة، وهي أنّ الحرمات - أي ما يجب إحترامه والمحافظة عليه - يجب أن يجري فيه القصاص والمساواة فقال: { ٱلشَّهْرُ ٱلْحَرَامُ بِٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ وَٱلْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ } ذكر هذه القاعدة حجّة لوجوب مقاصّة المشركين على إنتهاك الشهر الحرام بمقابلتهم بالمثل، ليكون شهر بشهر جزاءً وفاقاً. وفي جملة: والحرمات قصاص. من الإيجاز ما ترى حسنه وإبداعه. ثمّ صرّح بالأمر بالإعتداء على المعتدي مع مراعاة المماثلة، وإن كان يفهم ممّا قبله؛ لمكان كراهتهم للقتال في الحرم والشهر الحرام، فقال تفريعاً على القاعدة وتأييداً للحكم: { فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ } وإنّما يتحقّق هذا فيما تتأتّى فيه المماثلة، وسمّي الجزاء إعتداء للمشاكلة، وقد استدلّ الإمام الشافعي بالآية على وجوب قتل القاتل بمثل ما قتل به بأن يذبح إذا ذبح، ويخنق إذا خنق، ويغرق إذا أغرق، وهكذا. وقال مثل ذلك في الغصب والإتلاف. والقصد أن يكون الجزاء على قدر الإعتداء بلا حيف ولا ظلم، وأزيد على هذا ما هو أولى بالمقام، وهو المماثلة في قتال الأعداء كقتل المجرمين بلا ضعف ولا تقصير، فالمقاتل بالمدافع والقذائف النارية أو الغازية السامة يجب أن يقاتل بها، وإلاّ فأتت الحكمة لشرعيّة القتال، وهي منع الظلم والعدوان، والفتنة والإضطهاد، وتقرير الحرية والأمان، والعدل والإحسان. وهذه الشروط والآداب لا توجد إلاّ في الإسلام، ولذلك قال تعالى بعد شرح القصاص والمماثلة: { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } فلا تعتدوا على أحد ولا تبتغوا ولا تظلموا في القصاص بأن تزيدوا في الإيذاء. وأكّد الأمر بالتقوى بما بيّن من مزيّتها وفائدتها فقال: { وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ } بالمعونة والتأييد، فإنّ المتّقي هو صاحب الحقّ وبقاؤه هو الأصلح، والعاقبة له في كل ما ينازعه به الباطل، لأنّ من أصول التقوى اتّقاء جميع أسباب الفشل والخذلان.

ولمّا كان الجهاد بالنفس وهو القتال، يتوقّف على الجهاد بالمال، أمرهم به فقال: { وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } وهو عطف على قاتلوا، رابط لأحكام القتال والحجّ بحكم الأموال السابق، فهناك ذكر ما يحرّم من أكل المال مجملا، وهاهنا ذكر ما يجب من إنفاقه منه كذلك، وسبيل الله هو طريق الخير والبرّ والدفاع عن الحقّ.

السابقالتالي
2 3 4