الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى ٱلْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ ٱلنَّاسِ بِٱلإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }

الكلام كما تقدّم في سرد الأحكام العملية، ولمّا فرغ من أحكام الصيام وفيها حكم أكل الإنسان مال نفسه في وقت دون وقت مهّد لحكم أكل مال غيره بذكر الحدود العامّة والنهي عن قربها، ثمّ قال: { وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَاطِلِ } الخطاب لعامّة المكلّفين، والمراد: لا يأكل بعضكم مال بعض، واختار لفظ أموالكم، وهو يصدق بأكل الإنسان مال نفسه للإشعار بوحدة الأمّة وتكافلها، وللتنبيه على إنّ احترام مال غيرك وحفظه، هو عين الإحترام والحفظ لمالك؛ لأنّ استحلال التعدّي وأخذ المال بغير حقّ. يعرّض كلّ مال للضياع والذهاب، ففي هذه الإضافة البليغة تعليل للنهي، وبيان لحكمة الحكم، كأنّه قال: لا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل، لأنّ ذلك جناية عن نفس الآكل، من حيث هو جناية على الأمّة التي هو أحد أعضائها، لا بدّ أن يصيبه سهم من كلّ جناية تقع عليها، فهو باستحلاله مال غيره يجرِّئ غيره على استحلال أكل ماله عند الإستطاعة، فما أبلغ هذا الإيجاز! وما أجدر هذه الكلمة بوصف الإعجاز.

وفي الإضافة معنى آخر قاله بعضهم، وهو التنبيه على إنّه يجب على الإنسان أن ينفق مال نفسه في سبيل الحقّ، وألا يضيّعه في سبل الباطل المحرّمة، ونظر فيه آخر بما رضيه الأستاذ الإمام فقال: إنّه صحيح في ذاته، ولكن فهمه من الآية بعيد لقوله (بينكم) فهو صريح في إنّ المراد ما يقع به التعامل بين إثنين فأكثر.

والمراد بالأكل: مطلق الأخذ، والتعبير عن الأخذ بالأكل معروف في اللغة تجوّزوا فيه قبل نزول القرآن، ومنشؤه: إنّ الأكل أعمّ الحاجات من المال وأكثرها، وإن كان بعض الناس يفضّل غير الأكل من الأهواء ينفق فيه المال، فإنّ هذا لا ينفي إنّ الحاجة إلى الأكل وتقويم البنية أعظم وأعمّ، وأكثر ما يستعمل أكل المال في مقام أخذه بالباطل، وقد يستعمل في غيره.

وأمّا الباطل، فهو ما لم يكن في مقابلة شيء حقيقي، وهو من البطل والبطلان، أي الضياع والخسار، فقد حرّمت الشريعة أخذ المال بدون مقابلة حقيقية يعتدّ بها، ورضاء من يؤخذ منه، وكذلك إنفاقه في غير وجه حقيقي نافع.

قال الأستاذ الإمام: ومن ذلك تحريم الصدقة على القادر على كسب يكفيه، وإن تركه حتّى نزل به الفقر إعتماداً على السؤال، ونقول: إنّها كما حرّمت إعطاءه حرّمت عليه الأخذ إذا هو أعطاه معط، فلا يحلّ لمسلم أن يقبل صدقة وهو غير مضطرّ إليها، ولا للمضطرّ، إلاّ إذا كان عاجزاً عن إزالة إضطراره بسعيه وكسبه.

أقول: وأبلغ من هذا وذاك ما ذكره الفقهاء من إنّه لا يجب على العاري الذي لا يجد ما يستر عورته في الصلاة، أن يستعير ثوباً يصلي فيه أو يقبله صدقة ممّن يبذله له؛ لما في ذلك من المنّة التي لا يكلّفه الإسلام احتمالها، وله أن يصلّي عارياً.

السابقالتالي
2 3 4 5 6