الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ }

روى ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما في سبب نزول هذه الآية: إنّ أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أقريب ربّنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فسكت عنه فأنزل الله الآية. وأخرج عبد الرزاق عن الحسن قال: سأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم أين ربّنا؟ فنزلت. ورووا في سببه غير ذلك ممّا هو أضعف سنداً، وأقلّ ناصراً وعدداً. وقال الأستاذ الإمام عند ذكر السبب الأول: هذا السؤال ليس ببعيد من العرب أو الأعراب الذين اعتادوا أن يتّخذوا وسائل بينهم وبين إلههم يقرّبونهم إلى خالق السماوات والأرض، وهؤلاء الوسائل والوسائط إمّا أشخاص، وإمّا أمثلة أشخاص كالتماثيل والأصنام، ولم يهتدوا بأنفسهم إلى التجرّد لمعرفة ذلك الإله الواحد العظيم بأنّه لا يتقيّد بشيء، حتى هداهم إليه القرآن بآياته البيّنات، فكانوا أهل التوحيد الخالص. ولكن الآية جاءت بين آيات الصيام فهي ليست بأجنبية منها، وإنّما هي متّصلة بما قبلها من الأحكام، فقد طالبنا في الآية السابقة بإكمال عدّة الصيام وبتكبير الله تعالى، وذكر أنّ ذلك يعدّنا لشكره تعالى، والتكبير والشكر يكونان بالقول نحو: الحمد لله والله أكبر، كما يكونان بالعمل، وما كان بالقول يأتي فيه السؤال: هل يكون برفع الصوت والمناداة، أم بالمخافتة والمناجاة؟ فجاءت هذه الآية جواباً عن هذا السؤال الذي يتوقّع إن لم يقع، فهي في محلّها سواء صحّ ما رووه في سببها أم لا.

قال: ويروى في نزولها سبب آخر، وهو إنّ النبي صلى الله عليه وسلم سمع المسلمين يدعون الله تعالى بصوت رفيع في غزوة خيبر فقال لهم: " أربعوا على أنفسكم فإنّكم لا تدعون أصمّ ولا غائباً " وعلى كل حال تفيدنا الآية حكماً شرعيّاً، وهو إنّه لا ينبغي رفع الصوت في عبادة من العبادات، إلاّ بالمقدار الذي حدّده الشرع في الصلاة الجهرية، وهو أن يسمع من بالقرب منه، ومن بالغ في رفع صوته ربّما بطلت صلاته، ومن تعمّد المبالغة في الصياح في دعائه أو الصلاة على نبيّه كان إلى عبادة الشيطان، أقرب منه إلى عبادة الرحمن.

أقول: أمّا الحديث فقد رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن من طرق إلى أبي عثمان النهدي عن أبي موسى قال: كنّا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فجعل الناس يجهرون بالتكبير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أيّها الناس أربعوا على أنفسكم فإنّكم لا تدعون أصمّ ولا غائباً، إنّكم تدعون سميعاً قريباً وهو معكم " وفي رواية أنّهم كانوا يرفعون أصواتهم بالتهليل والتكبير إذا علوا عقبة أو ثنية. وليس في هذه الروايات ذكر الآية، ولكن الحديث في المقام، فإنّهم كانوا يرفعون أصواتهم بالتكبير المأمور به في الآية السابقة، فدلّت الآية على ما صرّح به الحديث من النهي، فكان الحديث تفسيراً لها، بل هو عمل بها.

السابقالتالي
2 3 4 5 6