الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً ٱلْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ بِٱلْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ } * { فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى ٱلَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } * { فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

وجه التناسب والإتّصال بين هذه الآيات وما قبلها، هو أنّ القصاص في القتل ضرب من ضروب الموت، يذكّر بما يطلب ممّن يحضره الموت وهو الوصيّة، والخطاب فيه موجّه إلى الناس كلّهم: بأن يوصّوا بشيء من الخير، ولا سيّما في حال حضور أسباب الموت وظهور أماراته؛ لتكون خاتمة أعمالهم خيراً، وهو على نسق ما تقدّم في الخطاب بالقصاص من اعتبار الأمّة متكافلة يخاطب المجموع منها بما يطلب من الأفراد، وقيام الأفراد بحقوق الشريعة لا يتمّ إلاّ بالتعاون والتكافل والإئتمار والتناهي فلو لم يأتمر البعض وجب على الباقين حمله على الإئتمار { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ } أي فرض عليكم يا معشر المؤمنين إذا حضرت الواحد منكم أسباب الموت وعلاماته { إِن تَرَكَ خَيْراً } أي إن كان له مال كثير يتركه لورثته { ٱلْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ بِٱلْمَعْرُوفِ } أي كتب عليكم في هذه الحالة أن توصّوا للوالدين والأقربين بشيء من هذا الخير بالوجه المعروف الذي لا يستنكر لقلّته بالنسبة إلى ذلك الخير، ولا بكثرته الضارّة بالورثة، بأن لا يزيد الموصّى به لهم ولغيرهم من الأجانب عن ثلث المتروك للوارثين.

والوصيّة: الاسم من الإيصاء والتوصية، وتطلق على الموصّى به من عين أو عمل، وهي مندوبة في حال الصحّة وتتأكّد في المرض، وظاهر الآية إنّها تجب عند حضور أمارات الموت للوالدين والأقربين، وفيه الخلاف الآتي، يقال: أوصى ووصّى فلاناً بكذا من العمل أو المال، ووصّى بفلان، وأوصى له بكذا من مال أو منفعة. وأوصاه فيه - أي في شأنه، وإيصاء الله بالشيء وفيه أمره. وفسّروا الخير بالمال، وقيّده الأكثرون بالكثير، أخذاً من التنكير، ولم يقيّده الجلال بذلك.

قال الأستاذ الإمام: لم يقتصر أحد من المفسّرين على ذكر المال فقط، إلاّ مفسّرنا وقوله صادق فيما ذكروه وجهاً وذكروا معه قول من قيّده بالكثير كالبيضاوي، وجزم المفسّر بأنّ الآية منسوخة بآية المواريث وحديث الترمذي " لا وصيّة لوارث " وردّه بعضهم، فكلام الجلالين في المسألتين غير مسلّم، وإنّني أُفصّل ما ذهب إليه شيخنا وأشرح استدلاله عليه فأقول:

أمّا الأولى: فقد قالوا إنّ المال لا يسمّى في العرف خيراً، إلاّ إذا كان كثيراً، كما لا يقال فلان ذو مال إلاّ إذا كان ماله كثيراً، وإن تناول اللفظ صاحب المال القليل، وأيّدوا هذا بما رواه ابن أبي شيبة عن عائشة رضي الله عنها قال لها رجل: أريد أن أوصي، قالت: كم مالك؟ قال: ثلاثة آلاف. قالت: كم عيالك؟ قال: أربعة، قالت: قال الله تعالى: { إِن تَرَكَ خَيْراً } وهذا شيء يسير فاتركه لعيالك فهو أفضل. وروى البيهقي وغيره: إنّ عليّاً دخل على مولى له في الموت وله سبعمائة درهم أو ستّمائة درهم، فقال: ألا أوصي؟ قال: لا إنّما قال الله تعالى: { إِن تَرَكَ خَيْراً } وليس لك كثير مال فدع مالك لورثتك.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7