الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } * { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ }

أقول: المثل بفتحتين، والمثل بالكسر، والمثيل، كالشبه، والشبه والشبيه وزناً ومعنىً في الجملة، وهو من مثل الشيء مثولا، إذا انتصب بارزاً فهو ماثل. ومثل الشيء - بالتحريك - صفته التي توضحه وتكشف عن حقيقته، أو ما يراد بيانه من نعوته وأحواله. ويكون حقيقة ومجازاً، وأبلغه: تمثيل المعاني المعقولة بالصور الحسّيّة وعكسه. ومنه الأمثال المضروبة، وتسمّى: الأمثال السائرة، وسيأتي تحقيق معناها في تفسيرإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا } [البقرة: 26] ومنه ما يسمّيه البيانيّون: الإستعارة التمثيليّة، وهو خاصّ بالمجاز. والتمثيل أمثل أساليب البلاغة، وأشدّها تأثيراً في النفس وإقناعاً للعقل، قال تعالى:وَتِلْكَ ٱلأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ ٱلْعَالِمُونَ } [العنكبوت: 43] وما رأيت أحداً من علماء البلاغة وفّاه حقّه من البيان المقنع، إلاّ إمامهم الشيخ عبد القاهر الجرجانيّ في كتابه (أسرار البلاغة) وهاك ما كنت كتبت في تفسير هذا المثل ثمّ ما بعده، إجمالاً ثمّ تفصيلا، مقتبساً معانيه من دروس استاذنا الإمام.

هذا مثل من مثلين ضربهما الله في هذه الآيات للصنف الثالث من الناس، الذين قرع القرآن أبواب قلوبهم. وكان من عناية الله تعالى في بيان حاله، أن قفَّى على ذلك التفصيل في شرّ فرقه وأطوارهم، بضرب المثل الذي يقصد به تجلّي المعنى في أتمّ مجاليه، وتأثّر النفوس بما أودع فيه، ناهيك بما في التنقّل في الأساليب من توجيه الذهن إلى سابق القول، ودعوة الفكر إلى مراجعة ما مضى منه. ولولا أنّ بلاء هذا الصنف عظيم، وداءه دفين، وعلاجه متعسّر لأنّه متولّد من الدواء الذي كان يجب أن تكون فيه الصحّة ونعمة العافية - لما كان من البلاغة ولا من الحكمة أن يعنى بشأنه كلّ هذه العناية - كما قلنا في تزييف رأي من ذهب إلى أنّ الكلام في تلك الشرذمة من المنافقين في عصر التنزيل.

ضرب الله تعالى لهذا الصنف في مجموعه مثلين، وينبئان بانقسامه إلى فريقين، خلافاً لما في أكثر التفاسير في أنّ المثلين لفريق واحد، وأنّ معناهما وموضوعهما واحد:

الأوّل: مَنْ آتاهم الله ديناً وهداية عمل بها سلفهم فجَنَوا ثمرها، وصلح حالهم بها، أيّام كانوا مستقيمين على الطريقة، آخذين بإرشاد الوحي، واقفين عند حدود الشريعة، ولكنّهم انحرفوا عن سنن سلفهم في الأخذ بها ظاهراً وباطناً، ولم ينظروا في حقائق ما جاءهم، بل ظنّوا أنّ ما كان عند سلفهم من نعمة وسعادة إنّما كان أمراً خصّوا به، أو خيراً سيق إليهم، لظاهر قول أو عمل امتازوا به عن غيرهم ممّن لم يأخذ بدينهم، وإن كان ذلك العمل لم يخالط سرائرهم، ولم تصلح به ضمائرهم. فأخذوا بتقاليد وعادات لم تدعْ في نفوسهم مجالاً لغيرها؛ ولذلك لم يتفكّروا قطّ في كونهم أحرى بالتمتّع بتلك السعادة والسيادة من سلفهم؛ لأنّ حفظ الموجود، أيسر من إيجاد المفقود: بل لم يبيحوا لأنفسهم فهم الكتاب الذي اقتدى مَنْ قبلهم بما فيه من شموس العرفان، ونجوم الفرقان؛ لزعمهم أنّ فهمه لا يرتقي إليه إلاّ أفراد من رؤساء الدين، يؤخذ بأقوالهم ما وجدوا، وبكتبهم إذا فقدوا.

السابقالتالي
2 3 4