الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ فِي ٱلْقَتْلَى ٱلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَٱلْعَبْدُ بِٱلْعَبْدِ وَٱلأُنثَىٰ بِٱلأُنْثَىٰ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَٱتِّبَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ بَعْدَ ذٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } * { وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَٰوةٌ يٰأُولِي ٱلأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }

ذكر المفسّر وغيره: إنّ القصاص على القتل كان محتّماً عند اليهود، وأنّ الديّة كانت محتّمة عند النصارى، وإنّ القرآن جاء وسطاً يفرض القصاص إذا أصرّ عليه أولياء المقتول، ويجيز الديّة إذا عفوا، وقد أقرّهم الأستاذ الإمام على قولهم إنّ القتل قصاصاً كان حتماً عند اليهود كما في الفصل التاسع عشر من سفر الخروج والعشرين من التثنية، وأنكر عليهم قولهم إنّ الديّة كانت حتماً عند النصارى، فإنّه ليس في كتبهم شيء يحتّم عليهم ذلك، إلاّ أن يقال إنّ ذلك مأخوذ من وصايا التساهل والعفو وجزاء الإساءة بالإحسان في الإنجيل، ولكن أخذ الديّة ضرب من ضروب الجزاء ينافي هذه الوصايا.

وإذا نظرنا في أعمال الأوّلين والآخرين وشرائعهم في القتل، نجد القرآن وسطاً حقيقيّاً لا بين ما نقل عن اليهود والنصارى فقط، بل بين مجموع آراء البشر من أهل الشرائع السماوية والقوانين الوضعية، فقد كانت العرب تتحكّم في ذلك على قدر قوّة القبائل وضعفها، فربّ حرّ كان يقتل من قبيلة فلا ترضى قبيلته بأخذ القاتل به، بل تطلب به رئيسها، وأحياناً كانوا يطلبون بالواحد عشرة وبالأنثى ذكراً، وبالعبد حرّاً، فإن أجيبوا، وإلاّ قاتلوا قبيلة القاتل وسفكوا دماءً كثيرة، وهذا إفراط وظلم عظيم تقتضيه طبيعة البداوة الخشنة، وفرض التوراة قتل القاتل، إصلاح في هذا الظلم، ولكن يوجد في الناس - لا سيّما أهل القوانين في زماننا هذا - من ينكر المعاقبة بالقتل، ويقولون إنّه من القسوة وحبّ الإنتقام في البشر، ويرون أنّ المجرم الذي يسفك الدم يجب أن تكون عقوبته تربية لا إنتقاماً، وذلك يكون بما دون القتل، ويشدّدون النكير على من يحكم بالقتل، إذا لم تثبت الجريمة على القاتل بالإقرار، بأن ثبتت بالقرائن أو بشهادة شهود يجوز عليهم الكذب، ويرون أنّ الحكومة إذا علّمت الناس التراحم في العقوبات فذلك أحسن تربية لهم، ومنهم من يقول إنّ المجرمين لا يكونون إلاّ مرضى العقول، فالواجب أن يوضعوا في مستشفيات الأمراض العقلية ويعالجوا فيها إلى أن يبرؤا.

وإذا دقّقنا النظر في أقوال هؤلاء، نرى أنّهم يريدون أن يشرّعوا أحكاماً خاصّة بقوم تعلّموا وتربّوا على الطرق الحديثة، وسيسوا بالنظام والحكم، حتّى لا سبيل لأولياء المقتول أن يثأروا له من القاتل، ولا أن يسفكوا لأجله دماء بريئة، وحتّى يؤمن من استمرار العداوة والبغضاء بين بيوت القاتلين وبيوت المقتولين، ووجدت عندهم جميع وسائل التربية والمعالجة، لا أحكاماً عامّة لجميع البشر، في البدو والحضر، ومع هذا نرى كثيراً من الناس - حتّى المنتسبين إلى الإسلام - يغتّرون بآرائهم ويرونها شبهة على الإسلام، وأمّا النافذ البصيرة، العارف بمصالح الأمم، الذي يزن الأمور العامّة بميزان المصلحة العامّة لا بميزان الوجدان الشخصي الخاصّ بنفسه أو ببلده، فإنّه يرى أنّ القصاص بالعدل والمساواة هو الأصل الذي يربّي الأمم والشعوب والقبائل كلّها، وأن تركه بالمرّة يغري الأشقياء بالجراءة على سفك الدماء، وأنّ الخوف من الحبس والأشغال الشاقّة إذا أمكن أن يكون مانعاً من الإقدام على الإنتقام بالقتل في البلاد التي غلب على أهلها التراحم أو الترف والإنغماس في النعيم كبعض بلاد أوربا، فإنّه لا يكون كذلك في كلّ البلاد وكلّ الشعوب، بل إنّ من الناس في هذه البلاد وفي غيرها من يحبّب إليه الجرائم أو يسهّلها عليه كون عقوبتها السجن الذي يراه خيراً من بيته، وإنّ في مصر من الأشقياء من يسمّي السجن نزلا أو فندقاً، وسمعت أنا غير واحد في سورية يقول: إذا فعل فلان كذا فإنّني أقتله وأقيم في القلعة عشر سنين؛ وذلك إنّ القاتل هناك يحكم عليه غالباً بالسجن خمس عشرة سنة في قلعة طرابلس الشام، ويعفو السلطان في عيد جلوسه عمّن تمّ له ثلثا المدّة المحكوم بها عليه في السجن، واشتهر عن بعض المجرمين في مصر أنّهم يسمّون بعض السجون العصرية " لوكاندة كولس " بالإضافة إلى كولس باشا مدير السجون الذي أنشئت في عهده.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9