الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ لَّيْسَ ٱلْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَٱلْمَلاۤئِكَةِ وَٱلْكِتَابِ وَٱلنَّبِيِّينَ وَآتَى ٱلْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلاةَ وَآتَى ٱلزَّكَاةَ وَٱلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَٱلصَّابِرِينَ فِي ٱلْبَأْسَآءِ وٱلضَّرَّآءِ وَحِينَ ٱلْبَأْسِ أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ }

ادّعى الجلال أنّ هذه الآية نزلت للردّ على النصارى الذين يولّون وجوههم في صلاتهم قبل المشرق، واليهود الذين يولونها قبل بيت المقدس، وهذا ادّعاء لم يثبت، والصحيح قريب منه، وهو أنّ أهل الكتاب أكبروا أمر تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة كما تقدّم في آيات التحويل وحكمه، وطال خوضهم فيها حتى شغلوا المسلمين بها، وغلا كلّ فريق في التمسّك بما هو عليه وتنقيص مقابله كما هو شأن البشر في كلّ خلاف يثير الجدل والنزاع، فكان أهل الكتاب يرون أنّ الصلاة إلى غير قبلتهم لا تقبل عند الله تعالى، ولا يكون صاحبها على دين الأنبياء، والمسلمون يرون أنّ الصلاة إلى المسجد الحرام هي كلّ شيء؛ لأنّه قبلة إبراهيم، وأوّل بيت وضع لعبادة الله تعالى وحده؛ فأراد الله تعالى أن يبيّن للناس كافّة: إنّ مجرّد تولية الوجه قبلة مخصوصة، ليس هو البرّ المقصود من الدين، ذلك إنّ استقبال الجهة المعيّنة إنّما شرّع لأجل تذكير المصلّي بالإعراض عن كلّ ما سوى الله تعالى في صلاته، والإقبال على مناجاته ودعائه وحده، وليكون شعاراً لإجتماع الأمّة، فتولية الوجه وسيلةٌ للتذكير بتولية القلب، وليس ركناً من العبادة بنفسه، وأن يبيّن لهم أُصول البرّ ومقاصد الدين فقال:

{ لَّيْسَ ٱلْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ } قرأ حمزة وحفص بنصب البرّ، والباقون برفعه وكلاهما ظاهر، والبرّ - بكسر الباء - لغة: التوسّع في الخير، مشتقّ من البر بالفتح وهو مقابل البحر في تصوّر سعته كما قال الراغب، وشرعاً: ما يتقرّب به إلى الله تعالى من الإيمان والأخلاق والأعمال الصالحة، وتوجيه الوجوه إلى المشرق أو المغرب ليس هو البرّ ولا منه، بل ليس في نفسه عملا صالحاً كما تقدّم شرحه في آيات تحويل القبلة، وأحلنا فيه على هذه الآية التي بيّن الله فيها مجامع البرّ. { وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَٱلْمَلاۤئِكَةِ وَٱلْكِتَابِ وَٱلنَّبِيِّينَ } قرأ الجمهور لكن بالتشديد، ونافع وابن عامر بالتخفيف، أي ولكن جملة البرّ هو من آمن بالله إلخ، وفيه الإخبار عن المعنى بالذات، وهو معهود في الكلام العربي الفصيح، والقرآن جار على الأساليب العربية الفصحى، لا على فلسفة النحاة وقوانينهم الصناعية، وبلاغة هذه الأساليب إنّما هي في إيصال المعاني المقصودة إلى الذهن على أجلى وجه يريده المتكلّم وأحسن تأثير يقصده، ومثل هذا التعبير لا يزال مألوفاً عند أهل العربية على فساد ألسنتهم في اللغة، يقولون: ليس الكرم أن تدعو الأغنياء والأصدقاء إلى طعامك، ولكن الكرم من يعطي الفقراء العاجزين عن الكسب، فالكلام مفهومٌ بدون أن نقول إنّ معناه: ولكن ذا الكرم من يعطي، أو لكن الكرم عطاء من يعطي وإنّما نحن في حاجة إلى بيان النكتة في إختيار ذلك على قول: ولكن البرّ هو الإيمان بالله إلخ، وهذه النكتة مفهومة من العبارة، فإنّها تمثّل لك المعنى في نفس الموصوف به، فتفيدك أنّ البرّ هو الإيمان وما يتّبعه من الأعمال، باعتبار اتّحادهما وتلّبس المؤمن البارّ بهما معاً، من حيث إنّ الإيمان باعث على الأعمال وهي منبعثة عنه وأثر له، تستمدّ منه وتمدّه وتغذّيه، أي إنّها تمثّل لك المعنى في الشخص، أو الشخص عاملا بالبرّ، وهذا أبلغ في النفس هنا من إسناد المعنى إلى المعنى، ومن إسناد الذات إلى الذات، كما هو مذوّق ومفهوم.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد