الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَـٰئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ ٱلنَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } * { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلاَلَةَ بِٱلْهُدَىٰ وَٱلْعَذَابَ بِٱلْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى ٱلنَّارِ } * { ذَلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ نَزَّلَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِي ٱلْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ }

هذه الآيات متّصلة بما قبلها على كلا الوجهين السابقين: فإذا كان الكلام لا يزال في محاجّة اليهود وأمثالهم، فالأمر ظاهر، وإذا قلنا إنّ الكلام قد دخل في سرد الأحكام، تكون مقرّرة لحكم منها، وهو ظاهرٌ أيضاً، فقد تقدّم إنّ قوله تعالى:يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي ٱلأَرْضِ } [البقرة: 168] تقريرٌ لحكم في الأكل على خلاف ما عليه أهل الملل، وبيّنا ما كان عليه أهل الكتاب والمشركون في الأكل، ونقض القرآن لما وضعوه لأنفسهم من أوهاق الأحكام، وإباحته الطيّبات للناس بشرط أن يشكروه عليها، وعلى هذا تكون هذه الآيات جارية على الرؤساء، الذين يحرّمون على الناس ما لم يحرّم الله، ويشرّعون لهم ما لم يشرّعه، من حيث يكتمون ما شرّعه بالتأويل، أو الترك، فيدخل فيه اليهود والنصارى ومن حذا حذوهم، في شرع ما لم يأذن به الله وإظهار خلافه، سواء كان ذلك في أمر العقائد، ككتمان اليهود أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم أو الأكل والتقشّف، وغير ذلك من الأحكام التي كانوا يكتمونها إذا كان لهم منفعة في ذلك كما قال تعالى:تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً } [الأنعام: 91] وفي حكمهم كلّ من يبدي بعض العلم ويكتم بعضه لمنفعته، لا لإظهار الحقّ وتأييده، وهذا هو ما عبّر عنه بقوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً } أي الذين يخفون شيئاً ممّا أنزل الله من كتابه، فلا يبلّغونه للناس مهما يكن موضوعه، أو يخفون معناه عنهم بتأويله أو تحريفه أو وضع غيره في موضعه برأيهم وإجتهادهم، ويستبدلون بما يكتمونه ثمناً قليلاً من متاع الدنيا الفاني، كالرشوة والجعل على الفتاوى الباطلة، أو قضاء الحاجات عند الله تعالى، وغير ذلك من المنافع المؤقتة، إذ اتّخذوا الدين تجارة. والثمن القليل، منه ما قاله المفسّر من استفادة الرؤساء من المرؤسين، ومنه عكسه كما تقدّم غير مرّة.

قال شيخنا: هذا النوع من البيع والشراء في الدين، عامٌّ في الرؤساء الضالّين من جميع الأمم، ومنه ما كان رؤساء اليهود يلاحظونه زمن التنزيل، وهو حفظ ما بيدهم، الذي يتوهّمون أنّه يفوتهم بترك ما هم عليه من التقاليد واتّباع ما أنزل الله بدلا منها، وهذا هو شأن الناس في كلّ دعوة إلى إصلاح جديد غير ما هم فيه، وإن كان يعدهم بخير منه في الدنيا والآخرة، وكان ما هم فيه هو الفقر والذلّ والخذلان، حاضرة أو منتظرة.

ماذا كان شأن اليهود في زمن البعثة؟ ذلّ وإضطهاد من جميع الأمم، ولا سيّما النصارى، فقد كانوا يسومونهم سوء العذاب، ومنعوهم من دخول مدينتهم المقدّسة، وأكرهوهم في بعض البلاد على التنصّر.

ماذا كان شأن النصارى في زمن البعثة؟ فقر حاضر، وذلّ غالب، وحجر على العقول، ومنع للحرية في الرأي والعلم، وتحكّم في الإرادة، وسيطرة على خطرات القلوب وأهواء النفوس.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7