الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَٱشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } * { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحْمَ ٱلْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ ٱللَّهِ فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

بيّن الله تعالى حال الذين يتّخذون الأنداد من دونه، وأشار إلى أنّ سبب ذلك حبّ الحطام، وإرتباط مصالح المرؤسين بمصالح الرؤساء في الرزق والجاه، وخاطب الناس كلّهم بأن يأكلوا ممّا في الأرض، إذ أباح لهم جميع خيراتها وبركاتها بشرط أن تكون حلالا طيّباً، وبيّن سوء حال الكافرين المقلِّدين الذين يقودهم الرؤساء، كما يقود الراعي الغنم؛ لأنّهم لا استقلال لهم في عقل ولا فهم، ثمّ وجّه الخطاب إلى المؤمنين خاصّة؛ لأنّهم أحقّ بالفهم، وأجدر بالعلم، وأحرى بالإهتداء فقال:

{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } الأمر هنا للوجوب لا للإباحة، والطيّبات: ما طاب كسبه من الحلال، ويستلزم عدم تحريم شيء منها والامتناع عنها تديّناً لتعذيب النفس، وهذا تنبيه بعد ما تقدّم إلى عدم الإلتفات إلى أولئك الحمقى، الذين أبيحت لهم خيرات الأرض فطفقوا يحلّون بعضها ويحرّمون بعضاً بوساوس شياطينهم وتقليد رؤسائهم، وأعطوا ميزاناً يميّزون به الخواطر الشيطانية الضارّة من غيرها، فما أقاموا به ولا له وزناً، وبيّن لهم الحرام من الحلال، ولكنّهم نفضوا أيديهم من عزّ الاستقلال بالإستدلال، وهوّن عليهم التقليد ذلّ القيود والأغلال، فهو يقول كلوا من هذه الطيّبات ولا تضيّقوا على أنفسكم مثلهم { وَٱشْكُرُواْ للَّهِ } الذي خلقها لكم وسهّل عليكم أسبابها، بأن تتّبعوا سنّته الحكيمة في طلب هذه الطيّبات وإستخراجها، وفي إستعمالها فيما خلقت لأجله، وبالثناء عليه جلّ جلاله وعمّ نواله، وإعتقاد أنّ هذه الطيّبات من فضله وإحسانه، ليس لمن اتّخذوا أنداداً له تأثير فيها، ولذلك قال: { إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } أي إن كنتم تخصّونه بالعبادة، وتؤمنون بإنفراده بالسلطة والتدبير، فاشكروا له خلق هذه النعم وإباحتها لكم، ولا تجعلوا له أنداداً تطلبون منهم الرزق أو ترجعون إليهم بالتحليل والتحريم، فإنّ ذلك له وحده، وإلاّ كنتم مشركين به، كافرين لنعمه، كالذين من قبلكم جهلوا معنى عبادة الله تعالى فاتّخذوا بينهم وبينه وسطاء في طلب الرزق، ورؤساء يشرّعون لهم من الدين ما لم يشرّعه، ويحلّون لهم ويحرّمون عليهم ما لم يشرّعه لهم. ومن الشكر له تعالى: إستعمال القوى التي غذّيت بتلك الطيّبات في نفع أنفسكم وأمّتكم وجنسكم. وليس من الطيّبات ما يأخذه شيوخ الطريق من مريديهم، بل هو من الخبائث والسحت.

الأستاذ الإمام: لا يفهم هذه الآية حقّ فهمها إلاّ من كان عارفاً بتاريخ الملل عند ظهور الإسلام وقبله، فإنّ المشركين وأهل الكتاب كانوا فرقاً وأصنافاً، منهم من حرّم على نفسه أشياء معيّنة بأجناسها أو أصنافها، كالبحيرة والسائبة عند العرب، وكبعض الحيوانات عند غيرهم، وكان المذهب الشائع في النصارى أنّ أقرب ما يتقرّب به إلى الله تعالى تعذيب النفس وإحتقارها وحرمانها من جميع الطيّبات المستلذّة، وإحتقار الجسد ولوازمه، وإعتقاد أن لا حياة للروح إلاّ بذلك، وأنّ الله تعالى لا يرضى منّا إلاّ إحياء الروح، وكان الحرمان من الطيّبات على أنواع: منها ما هو خاصّ بالقديسين، أو بالرهبان والقسيسين، ومنها ما هو عامّ كأنواع الصوم الكثيرة، كصوم العذراء وصوم القديسين، وفي بعضها يحرّمون اللحم والسمن دون السمك، وفي بعضها يحرّمون السمك واللبن والبيض أيضاً، وكلّ هذه الأحكام والشرائع قد وضعها الرؤساء، وليس لها أثر ينقل عن التوراة، أو عن المسيح عليه السلام، وبذلك كانوا أنداداً، ونزل في شأنهم

السابقالتالي
2 3 4