الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ }

بعد ما بيّن تعالى فساد ما عليه المقلّدون من اتّباع ما وجدوا عليه آباءهم من غير نظر ولا استدلال، ضرب لهم مثلا زيادة في تقبيح شأنهم، والزراية عليهم، بقوله: { وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } أي صفتهم في تقليدهم لآبائهم ورؤسائهم { كَمَثَلِ ٱلَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً } أي كصفة الراعي للبهائم السائمة، ينعق ويصيح بها في سوقها إلى المرعى ودعوتها إلى الماء، وزجرها عن الحمى، فتجيب دعوته وتنزجر بزجره بما ألفت من نعاقه بالتكرار، شبه حالهم بحال الغنم مع الراعي يدعوها فتقبل، ويزجرها فتنزجر، وهي لا تعقل ممّا يقول شيئاً، ولا تفهم له معنى، وإنّما تسمع أصواتاً تقبل لبعضها وتدبر للآخر بالتعويد، ولا تعقل سبباً للإقبال ولا للإدبار، ومعنى المثل هنا كما قال سيبويه: إنّ صفة الكفّار وشأنهم كشأن الناعق بالغنم، ولا يقتضي هذا أن يكون كلّ جزء من المشبّه كمقابله من المشبّه به، وهو ما سمّاه علماء البيان بعد سيبويه بالتمثيل: وفرّقوا بينه وبين تشبيه متعدّد بمتعدّد، والكفر: جحود الحقّ، والإعراض عن النظر في الدليل عليه عند الدعوة إليه، وفرّق بينه وبين الضلال، فإنّ الضالّ من أخطأ طريق الحقّ مع طلبه، أو جَهَله فلم يعرفه بنفسه ولا بدلالة غيره. وأمّا الكافر، فهو يرى الحق ويعرض عنه، ويصرف نفسه عن دلائله وآياته فلا ينظر فيها، فهو كالحيوان يرضى بأن لا يكون له فهم ولا علم، بل يقوده غيره ويصرفه كيف شاء، فهو مع من قلّدهم من الرؤساء كالغنم مع الراعي، تقبل بدعائه وتنزجر بندائه، مسخّرة لإرادته وقضائه، ولا تفهم لماذا دعا ولماذا زجر، فدعوتها إلى الرعي وإلى الذبح سواء. وكذلك شأن كلّ من يسلم إعتقاداً بلا دليل، ويقبل تكليفاً بغير فقه ولا تعليل.

والآية صريحةٌ في أنّ التقليد بغير عقل ولا هداية هو شأن الكافرين، وأنّ المرء لا يكون مؤمناً إلاّ إذا عقل دينه وعرفه بنفسه حتّى اقتنع به. فمن ربُي على التسليم بغير عقل، والعمل - ولو صالحاً - بغير فقه، فهو غير مؤمن؛ لأنّه ليس القصد من الإيمان أن يذلّل الإنسان للخير كما يذلّل الحيوان، بل القصد منه أن يرتقي عقله وتتزكّى نفسه بالعلم بالله والعرفان في دينه، فيعمل الخير؛ لأنّه يفقه إنّه الخير النافع المرضي لله، ويترك الشرّ؛ لأنّه يفهم سوء عاقبته ودرجة مضرّته في دينه ودنياه، ويكون فوق هذا على بصيرة وعقل في إعتقاده، فلا يأخذه بالتسليم لأجل آبائه وأجداده، ولذلك وصف الله الكافرين بعد تقرير المثل بأنهم { صُمٌّ } لا يسمعون الحقّ سماع تدبّر وفهم { بُكْمٌ } لا ينطقون به عن إعتقاد وعلم { عُمْيٌ } لا ينظرون في آيات الله في أنفسهم وفي الآفاق، حتى يتبيّن لهم إنّه الحقّ { فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } مبدأ ما هم فيه ولا غايته، كما يطلب من الإنسان، وإنّما ينقادون لغيرهم كما هو شأن الحيوان، ولذلك اتّبعوا من لا يعقلون ولا يهتدون، فالعاقل لا يقلّد عاقلاً مثله، فأجدر به ألا يقلّد جاهلاً ضالاً هو دونه.