الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي ٱلأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ ٱلشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } * { إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِٱلسُّوۤءِ وَٱلْفَحْشَآءِ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } * { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ }

ذكر الجلال أنّ الآية الأولى نزلت فيمن حرّم السوائب ونحوها، ولكنّه لم يذكر ذلك في أسباب النزول، وقد كان هذا في طوائف من العرب كمدلج وبني صعصعة. وقال الأستاذ الإمام: لو صحّ أنّ الآية نزلت في ذلك، لما كان مقتضياً فصل الآية ممّا قبلها وجعلها كلاماً مستأنفاً؛ لأنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، على أنّ الظاهر من السياق أنّ الكلام متّصل بما قبله أتمّ الإتّصال، فإنّ الآيات الأولى بيّنت حال متّخذي الأنداد وما سيلاقون من عذاب الله تعالى، وقد قلنا في تفسيرها: إنّ الأنداد قسمان: قسم يتّخذ شارعاً يؤخذ برأيه في التحليل والتحريم من غير أن يكون بلاغاً عن الله ورسوله، بل يجعل قوله وفعله حجّة بذاته لا يسأل من أين أخذه، وهل هو فيه على هدي من ربّه أم لا؟ وقسم يعتمد عليه ويدّعى في دفع المضارّ وجلب المنافع من طريق السلطة الغيبية لا من طريق الأسباب، حتّى إنّهم ليعتمدون على إغاثة هؤلاء الأنداد للناس بعد موتهم وخروجهم من عالم الأسباب، ثمّ بيّنت أنّ الناس يتبع بعضهم بعضاً في ذلك، وأن سيتبرّأ الذين اتّبعوا من الذين اتّبعوا عند رؤية العذاب وتقطّع الأسباب بينهم، وقلنا في تفسيرها: إنّ الأسباب هي المنافع التي يجنيها الرؤساء من المرؤسين والمصالح الدنيوية التي تصل بعضهم ببعض. وفي هذه الآيات يبيّن تعالى أنّ تلك الأسباب محرّمة؛ لأنّها ترجع إلى أكل الخبائث واتّباع خطوات الشيطان، ونهى عنها، وبيّن سبب جمودهم على الباطل والضلال وهو الثقة بما كان عليه الآباء من غير عقل ولا هدى. فالكلام متمّم لما قبله قطعاً.

قال تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي ٱلأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً } الحلال هو غير الحرام الذي نصّ عليه في قوله تعالى:قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ } [الأنعام: 145] فما عدا هذا فكلّه مباح، بشرط أن يكون طيّباً، أي غير خبيث. وفسّر الجلال الطيّب بالحلال على إنّه تأكيد أو بالمستلَذّ، والأوّل لا محلّ له والتأسيس مقدّم على التأكيد، والثاني لا يظهر تقييد الإباحة العامّة لما في الأرض به، ورجّح الأستاذ الإمام أنّ الطيّب ما لا يتعلّق به حقّ الغير، وهو الظاهر؛ لأنّ المراد بحصر المحرّم فيما ذكر المحرّم لذاته الذي لا يحلّ إلاّ للمضطرّ، وبقي المحرّم لعارض، فتعيّن بيانه، وهو ما يتعلّق به حقّ الغير، ويؤخذ بغير وجه صحيح، كما يكون في أكل الرؤساء من المرؤسين بلا مقابل إلاّ أنّهم رؤساؤهم المسيطرون عليهم، وكذلك أكل المرؤسين بجاه الرؤساء، فإنّ كلا منهما يمدّ الآخر ليستمدّ منه في غير الوجوه المشروعة التي يتساوى فيها جميع الناس، ويخرج بذلك الربا والرشوة والسحت والغصب والغشّ والسرقة، فكلّ ذلك خبيث، وكذا ما عرض له الخبث بتغيّره كالطعام المنتن، وبهذا التفسير يتحرّر ما أباحه الدين وتلتئم الآية مع ما قبلها، وأتبع الأمر النهي فقال: { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ ٱلشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } قرأ الأئمّة خطوات بضمّتين: جمع خطوة بالضمّ، وهي ما بين القدمين؛ وبفتحتين جمع خطوة، وهي المرّة من خطا يخطو في مشيه، والمعنى: لا تتّبعوا سيرته في الإغواء، ووسوسته في الأمر بالسوء والفحشاء.

السابقالتالي
2 3 4 5 6