الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ وَلَوْ يَرَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ إِذْ يَرَوْنَ ٱلْعَذَابَ أَنَّ ٱلْقُوَّةَ للَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعَذَابِ } * { إِذْ تَبَرَّأَ ٱلَّذِينَ ٱتُّبِعُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ ٱلأَسْبَابُ } * { وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ ٱللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ ٱلنَّارِ }

هذه الآيات مبيّنة لحال الذين لا يعقلون تلك الآيات التي أقامتها الآية السابقة على توحيد الله تعالى ورحمته، ولذلك جعلوا له أنداداً يلتمسون منهم الخير والرحمة، ويدفعون ببركتهم البلاء والنقمة، ويأخذون عنهم الدين والشرعة. قال المفسّرون: إنّ الندّ هو المماثل، وزاد بعض اللغويين فيه قيداً فقال: إنّه المماثل الذي يعارض مثله ويقاومه. ويفهم من هذا: إنّ متّخذي الأنداد يزعمون أنّهم مماثلون لله تعالى في قدرته وعلمه وسلطانه، يعارضونه في الخلق ويقاومونه في التدبير، وهذا غير صحيح؛ لأنّ القرآن قصّ علينا خبر متّخذي الأنداد في آيات كثيرة صريحة، في أنّهم لا يعتقدون شيئاً من هذا الذي يفهم أو يتوّهم من عبارة المفسّرين، بل يعتقدون غالباً أنّ الله تعالى هو المنفرد بالخلق والتدبير، وأنّ الأنداد وسطاء بينه وبين عباده يقرّبونهم إليه ويشفعون لهم عنده، ويقضون حاجاتهم بخوارق العادات أو يقضيها هو لأجلهم.

ويحتجّون لهذه العقيدة بأنّ المذنبين المقصّرين لا يستطيعون الوصول إلى الله تعالى بأنفسهم، فلا بدّ لهم من واسطة بينهم وبينه تعالى، كما هو المعهود من الرعايا الضعفاء، مع الملوك والأمراء، والوثنيون يقيسون الله تعالى على من يعظّمونه من الرؤساء وعظماء الخلق، ولا سيّما المستبدّين منهم، الذين استعبدوا الناس استعباداً بل تعبّدوهم فعبدوهم. فالآيات الناطقة بأنّهم إذا سئلوا: من خلق كذا وكذا؟ يقولون: الله - كثيرة، وقال فيهم مع ذلك:وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـٰؤُلاۤءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ } [يونس: 18] وقال أيضاً:وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } [الزمر: 3] أي يقولون ما نعبدهم إلخ.

والأنداد عند جمهور المفسّرين أعمّ من الأصنام والأوثان، فيشمل الرؤساء الذين خضع لهم بعض الناس خضوعاً دينياً، ويدلّ عليه الآيات الآتية: { إِذْ تَبَرَّأَ ٱلَّذِينَ ٱتُّبِعُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ } [البقرة: 166] إلخ. فالمراد إذاً من الندّ من يطلب منه ما لا يطلب إلاّ من الله عزّ وجلّ، أو يؤخذ عنه ما لا يؤخذ إلاّ عن الله تعالى، وبيان الأوّل على ما قرّرناه مراراً أنّ للأسباب مسبّبات لا تعدوها بحكمة الله في نظام الخلق، وأنّ لله تعالى أفعالا خاصّة به، فطلب المسبّبات من أسبابها ليس من اتّخاذ الأنداد في شيء، وأنّ هناك أموراً تخفى علينا أسبابها، ويعمى علينا طريق طلاّبها، فيجب علينا بإرشاد الدين والفطرة أن نلجأ فيها إلى ذي القوّة الغيبية ونطلبها من مسبّب الأسباب، لعلّه بعنايته ورحمته يهدينا إلى طريقها أو يبدّلنا خيراً منها، ويجب مع هذا بذل الجهد والطاقة في العمل بما نستطيع من الأسباب، حتّى لا يبقى في الإمكان شيء مع إعتقادنا بأنّ الأسباب كلّها من فضل الله تعالى علينا ورحمته بنا، إذ هو الذي جعلها طرقاً للمقاصد، وهدانا إليها بما وهبنا من العقل والمشاعر.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد