الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلرَّحِيمُ } * { إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفِ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱلْفُلْكِ ٱلَّتِي تَجْرِي فِي ٱلْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ ٱلرِّيَاحِ وَٱلسَّحَابِ ٱلْمُسَخَّرِ بَيْنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }

نطقت الآيات السابقة بأن الذين يكتمون ما أنزله الله من البيّنات والهدى ملعونون، لا ترجى لهم رحمة الله تعالى، إلاّ أن يتوبوا، فإن هم ماتوا على كتمانهم وما يستلزمه كفرهم من الأعمال، كانوا خالدين في اللعنة لا يخفّف عنهم من عذابها شيء، إذ لا يقبل منهم افتداء، ولا تنفعهم شفاعة الشفعاء،مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ } [غافر: 18] لأنّ اللعنة تعمّهم في الآخرة من جميع الملائكة والناس، بحيث يظهر للعوالم أنّهم لا يستحقّون الرحمة، حتّى أنّ المرؤسين يتبرّءون من الرؤساء الذين كانوا يتّبعونهم في الضلال ويتّخذون كلامهم ديناً من دون كتاب الله كما سيأتي، فناسب بعد هذا أن يبيّن الله تعالى أنّ شارع الدين ومحقّ الحقّ هو واحد لا يعبد غيره، ولا تكتم هدايته، ولا يجعل كلام البشر معياراً على كلامه، وهو مفيض الرحمة والإحسان، إذ الرحمة من صفاته الكاملة اللازمة. ليتذكّر أولئك الضالّون الكاتمون لبيّنات الله، المؤثّرون عليها آراء رؤسائهم وأئمّتهم ثقة بهم، واعتماداً على شفاعتهم، أنّهم لن يغنوا عنهم من الله شيئاً، ويعلموا وجه خطأهم في كتمان الحقّ ومعاداة أهله عناداً من الرؤساء، وتقليداً من المرؤسين. فقال:

{ وَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } أي وإلهكم الحقّ الحقيق بالعبادة إله واحد لا إله مستحقّ لها إلاّ هو، فلا تشركوا به أحداً. والشرك به نوعان: أحدهما يتعلّق بالألوهية والعبادة، وهو أن يعتقد المرء أنّ في الخلق من يشاركه تعالى أو يعينه في أفعاله، أو يحمله على بعضها ويصدّه عن بعض بشفاعته عنده، لأجل قربه منه، كما يكون من بطانة الملوك المستبدّين، وحواشيهم وحجّابهم وأعوانهم، فهو يتوجّه إلى هذا المؤثّر عند الله بزعمه عندما يتوجّه إليه تعالى في الدعاء فيدعوه معه، وقد يدعوه من دونه عند شدّة الحاجة لكشف ضرّ أو جلب نفع أعيته أسبابهما، وهذا مخّ العبادة. وثانيهما يتعلّق بالربوبية وهو إسناد الخلق والتدبير إلى غيره معه، أو أن تؤخذ أحكام الدين في عبادة الله تعالى والتحليل والتحريم عن غيره، أي غير كتابه ووحيه الذي بلغه عنه رسله، بحجّة أن من يؤخذ عنهم الدين من غير بيان الوحي أعلم بمراد الله، فيترك الأخذ من الكتاب لرأيهم وقولهم، وهو المراد بقوله تعالى:ٱتَّخَذُوۤاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ ٱللَّهِ } [التوبة: 31] كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى. وظاهر: إنّ الواجب على العلماء بالدين أن يبيّنوا للناس ما نزّله الله ولا يكتموه، لا أن يزيدوا فيه أو ينقصوا منه، كما زاد أهل الكتب المنزلة كلّهم، عبادات وأحكاماً كثيرة زائدة على الوحي أو مخالفة له، يتأوّلونه لأجلها دون العكس، وإذا كان الله تعالى واحداً لا إله إلاّ هو، فلا ينبغي أن يشرك معه غيره، فهو كذلك { ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلرَّحِيمُ } أي الكامل الرحمة فلا ينبغي أن يعرض العبد عن أسباب رحمته إعتماداً على رحمة سواه ممّن يظنّ أنهم مقرّبون عنده، فحسب المؤمن من رحمة الله التي وسعت كلّ شيء أن يستغني بالتصدّي لها عن رجاء سواها، وإلاّ كان من الخائبين.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9